Atwasat

حساء السلاحف

محمد عقيلة العمامي الإثنين 14 مايو 2018, 10:18 صباحا
محمد عقيلة العمامي

كانت درقة السلحفاة البحرية مشروخة، فقام شفيق أحد بحارة سفينتنا بمعالجة الشرخ بضمه من بعد أن استخدم غراء سريع الالتصاق ولف الدرقة بمطاط إطار عجلة داخلي. قال لي: "السلاحف مسكونة، لم ينج أحد من الذين اعتدوا عليها من مغبة لعنتها!". أطعمها ورعاها مربوطة بسفينة الصيد؛ ولكنها انزلقت منه بالبحر عندما كان يدليها كعادته ولم نرها بعد ذلك أبدا. بعد أشهر رأينا سلحفاة شفيق والمطاط يلفها، واكتشفنا أنها ذكر، فلقد كان يمتطي أنثاه. ذلك اليوم علمت أن تسافد السلاحف قد يستمر، أكثر من يوم والأنثى تسبح بذكرها، ولا تغوص به أبدا، حتى إنجاز مهمته.

لم أكن أعرف شيئا عن سلاحف البحر، سوى بضعة معلومات من الصيادين أهمها أن رؤيتها بمنطقة يعني أنها خالية من الأسماك لأنها تهرب بسبب نهمها، واكتشفت فيما بعد أنها ليست حقيقة. وقيل لي أنها لا تؤكل، وإنما يستفاد من درقتها في صناعة إطارات النظارات، أو يزين بها الصيادون أكواخهم، والثانية ليست حقيقة.

(أم الخير) جدة زوجتي، حاجة مباركة، ممتلئة ودا ودفئا وحكايات، عاشت قبل رحيلها في قرية دريانة، أخذتني يوما ربيعيا بديعا، على مشارف الصيف، لتريني كيف تهتدي إلى بيض السلاحف المدفون، والذي كان أيام الحرب مصدرا غذائيا مهما لسكان سواحل شرق بنغازي. وقفتْ بي فوق أثر واضح لمسارات سلاحف صغيرة شقت طريقها نحو البحر. قالت لي: "البيض الذي تدفنه السلحفاة في الربيع يفقس مع بداية الصيف.." واكتشفت هذه الحقيقة بعد سنوات.

الآن بعد حوالي نصف قرن قرأت الكثير عن هذه المخلوقات التي تثير شجون السواح وهم يشاهدونها وهي تضع بيضها والدموع تسيل من عينيها، من دون أن تهتم بهم وهم يتحلقون حولها وهي تنفذ نداء الطبيعة. جزر الكاريبي التي أطلق عليها كولومبس سنة 1503 (تورتوجيرو) وتعني اسم السلاحف بالإسبانية، ثم تغير الإسم حديثا إلى ( كايمان) تعد مركزا لأساطيل صيد السلاحف البحرية في العالم بسبب كثرتها في تلك البقعة.

لقد صادفت الكثير من المخلوقات المائية التي يلتهمها الإنسان، لعل لحم التمساح كان أكثر ما استفزني. لم يخطر ببالي أن للسلحفاة سوقا رائجة. لأنني لم أعرف أهميتها طول العقود السبعة التي أكلت فيها كل شيء من البحر باستثناء "حساء السلاحف" الذي وجدته في العديد من قوائم الطعام، والذي اعتقدت أنه مجرد تسمية لا علاقة لها بـ (فكرونة البحر) إذ لم تصادفني مكرونة بلحم السلاحف، أو شريحة فكرونة مقلية أو مشوية.. ولهذا ذهلت عندما علمت أن مواني فلوريدا وحدها، على سبيل المثال، يصلها حوالي 500 ألف كيلوجرام من لحوم هذه السلاحف تقطع وتجمد وتشحن إلى فنادقها ومطاعمها، ولكل نوع من السلاحف نكهة مميزة، فتلك التي تقتات أعشاب البحر يختلف مذاقها عن مثيلاتها التي تتغذى على الأسماك، والعجيب أن بعضها يبلغ وزنها حتى 360 كيلوجرام.

تتخذ سلاحف البحر من حيز مكاني يشبه الكهف مقرا تقضى ليلتها به، وإن اكتشف صياد كهفا منها، يعرف أن هناك أكثر من مقر لسلاحف أخرى، وبالتالي ينصبون شباكهم في تلك المنطقة فتعلق السلاحف فيها عند عودتها إلى مقرات إقامتها. فالسلاحف تحتاج إلى الصعود إلى السطح مرات للحصول على الهواء. وتُجمع السلاحف المصطادة وتترك في حيز هو في الواقع شكل من أشكال مزرعة لها يؤخذ منها وقت الحاجة.

تقول الأبحاث إن وضع السلاحف لبيضها له طقوس عجيبة منها التوقيت الذي يرتبط باكتمال البدر في الربيع، ثم ابتعادها عن المياه المالحة، حيث تحفر لتضع بيضا مستديرا مطاطيا في بدايته يبلع عدده من 100 إلى 150 بيضة، ثم تغطية. والحفر يثير الرمال، ووسيلتها في حماية عينيها هي تلك الدموع التي تثير الشجن. ويفقس البيض بعد شهرين وتشق السلاحف التي لا يزيد حجمها عن أربعة سنتيمرات طريقها نحو البحر، وتكون عرضة للكثير ممن ينتظرونها، في البر والبحر والجو لالتهامها. أغلب ما لخصته في مقالتي هذه ذكرته لي الحاجة أم الخير، ولكن مالا تعرفه هو إخلاص الذكور لإناثها فلقد أكد الصيادون ملاحقة الذكور للقارب الذي يصطاد إناثهم وإصرارها على الصعود إليه، فيساعدهم الصيادون على ذلك لينتهوا حساء في أطباق البشر!.