Atwasat

يا للعار!

عبد الكافي المغربي الأربعاء 09 مايو 2018, 11:14 صباحا
عبد الكافي المغربي

قابلت قبل أيام بالجامعة الأمريكية في القاهرة صديقًا مستجدًا، وبدأنا حديثًا شيقًا. سألني عما يجري في ليبيا وأحوال قومي وتمطق بذم العرب وأشفق على طموحيَ التنويري، إذ إني أُضاف رقمًا إلى الكتّاب الذين يظنون أنهم مصلحون وهم لا يعدون مَثَل النافخ في قربة مثقوبة. أسرعت إلى مراوغة حديثه المستخف بالكاتب وبرسالة التغيير التي تستولي على عقل المفكر، وهي استهانة كل عربي لم يرث الاعتزاز بوطنه ودولته مذ انكسرت شوكة قومه قديمًا واستعبدهم الترك والفرنجة، وزعمت الضجر من صيف القاهرة القاتل، وسألت عن الأماكن ذات القيمة الجمالية التي يستطيع الناس قصدها في إجازاتهم، وبلغ صديقي أبعد مدى من النشوة وهو يحدث عن العدد الهائل من المجمعات التجارية الرائعة، التي لا تعنيني في شيء، والأندية والمطاعم الأنيقة وحدائق الأسماك والحيوانات والنباتات وغير ذلك من وجهات جذابة تطالع زائر القاهرة.

وكبدت وقتًا في اصطناع اللياقة بإبداء الاهتمام ومبادلته الحديث عما تحفل به مصر من مباهج للنفس ومسريات عن القلق، مما يمتنع عن المطحونين الذين يمثلون الأغلبية المهزومة في كل بلد عربي. ثم انكفأت على نفسي أجر هم الوطن وأستحضر ماضيه، الذي كان في أحد أطواره مبشرًا يقود إلى مستقبل خليق بشعبنا، متقدمًا مسرعًا في تقدمه، قبل التاريخ المشؤوم الذي انتهب فيه الفتيان السلطة من الرجال، وبينما أنا ماضٍ في ذلك أستعرض الحقائق المرعبة التي أحالنا إليها الحاسي، يعود إلى ذاكرتي حديث استمعته في إحدى إذاعاتنا وأنا منصرفٌ عنه في بعض شأني، وإذ تطن في أذني عبارة ضيفهم الكريم "لو كنت تعرف كنت قتلته".

لقد تردد في فكري كثيرًا من الأحيان أن ليبيا، أو برقة بوجه خاص، لا تجاوز أن تكون ضاحية من ضواحي مصر الأقل تحضرًا، أو بتعبير أدق، هي أقصى امتدادات التأثير الثقافي المصري وأشحها إبداعًا، ونحن لا نأنف أن نعدها تابعًا يستقبل التأثير السياسي للجارة الكبرى ولا يخلع عليه طابعًا يميزه، وكذلك لا نستنكف أن نغبط مصر على هذا التأثير ونخاصمها إذ أساءت تلقيننا.

لسنا نعد حركة 1952 من نكد طالع الأمة المصرية، وإن كنا نحتج على بعض السياسات المتأخرة كعزل محمد نجيب ومسخ الديمقراطية وقانون الإصلاح الزراعي المتخبط والدعاية للفرد الواحد، ففي عصر عنفوان الناصرية كان للمفكرين أن يقولوا ما شاءوا، ويعاقبوا إذا رأت السلطة عقابا مترفقًا، وصاغت المحاولة الناصرية الشخصية القيادية لكن المترددة لمصر، ومثلت الأساس الذي قامت عليه نهضتها الاقتصادية والعسكرية. أما ما حدث عندنا في 1969 فلعبُ أطفال بالقياس إلى المخاطرة المصرية، كما أن الجماعة الناصرية لا تعدو كونها حكومة قزمية بمقارنتها مع الحكومة الشيوعية الأولى في روسيا.

فكيف نرد على من يتحدث عن القتل علنا؟ من صنع من أمتنا موتى يُسلبون في عام ما يشيد قارات من عدم؟ وماذا تقول لقناة تتقلب في الهوى كما يتقلب الفاسق بين المواخير. فأما صاحبنا الذي تخلى عن زعيمه وقت المحنة ليعبث به "جيل الغضب" فنسأله أن يفيد مما أفسحته له قنوات الثورة ويقدم برنامجًا براقا عوضًا عن الوعيد الذي أورد شعبنا مواضع العوز. إننا نريده أن يستثمر سبات قومنا وفساد نخبتنا وهزيمة مثقفينا، ويتخذ سياسة ديماغوجية لائقة لاعتلاء السلطة، وليرتكب ما شاء أن يرتكب من جرائم التنكر الانتخابي، التي سبقته إليها عناصر الثورة. وأما خطاب سبتمبر الذي يصدر عن سفاحين، وهو المدان الأول بمآلات بلادنا، فما نرفض ونعمل بكل مشقة على التصدي له. وأما القناة التي تثير اشمئزازنا لأننا وقفنا من خلالها على قدر ما بلغ رجال الدولة من فساد الأنفس وانهيار القيم وإفلاس العقل، فنحن لا نطالبها بأن تكون مستنيرة، ولسنا نلزم أي تلفزيون أن يكون مستنيرا، بل نرجوهم أن يفرغوا للدعوة لمرشحهم الواسع العلم، ونحن نفترض أن المرشح المخضرم لا يقنعه أن يكون خادمًا لمجرمي سبتمبر، ويود لو يكون سيدًا عليهم.

ولا يكاد الرجل المستنير يلحظ التقدم يسفر عن تراجع، وإصلاح النظم يعقبه فسادها، والأمم إذا افتقرت تُبنى بصدقات تجارها وإعانات البلاد المتحضرة وتتداعى بمالها حتى إذا استغنت، والشعب المسكين يستنزفه من لا يمنعهم من مَنَّ عليهم من غفلة أن يحتقروا غباوته ونزوله عن أحلامه، أقول ما إن يرى صاحبنا ذلك يلم بأمته جملة واحدة حتى يستبد به اليأس ويتوقف هو بدوره عن توصيف الحلول، ويخسأ إلى مكتبه مشككًا بأن غفلة أمته قد تتبدد ولو كره ظالموها، وأن روح الحرية النابضة في العالم ستمكر بكل جبار فتحمله على اللين حتى يتقوض سلطانه من الداخل، أو أنه سيطل علينا من هوة الانحطاط السحيقة شعب لامعٌ قَويمُ الأخلاقِ.