Atwasat

تاورغاء الليبية: من بساتين النخيل إلى سلال من السعف

لؤي شبانه الخميس 26 أبريل 2018, 09:33 مساء
لؤي شبانه

تعمل يدا الحاجة «أم منذر» دون توقف رغم تشقق أطراف أصابعها بسبب الجفاف وانتفاخ مفاصلها بسبب مرض الروماتيزم. تجلس على صندوق خشبي أمام خيمة اتخذتها وأسرتها بيتًا لهم منذ قرابة السبع سنوات، حين خرجت العائلة من مدينتها تاورغاء جنوبي مصراتة الساحلية أثناء الحرب الليبية. تنسج يدا «أم منذر» سلة من سعف النخيل، وتتنهد بحزن حين أسألها عن حالها. فالسيدة الستينية تعيش تحت خيمة مع عائلة ابنها الذي مات في الحرب، وتكسب بعض الدنانير الشحيحة لقاء كل سلة تنتجها، هي التي كان لها بيت تحيط به حديقة مليئة بشجر النخيل، لم تكن قد استخدمت سعفه لصنع السلال وبيعها قط. أتمعن في وجه «أم منذر» فلا أتمكن من تحديد ملامحها، وكأنها اختفت تحت وطأة النزوح والفقر وانتظار العودة.

أضطرت «أم منذر» ونحو 40،000 ألف آخرين أن يتركوا بيوتهم في تاورغاء بعد معركة بدأت في فبراير/ شباط 2011 أثناء الثورة الليبية وضعت أهل تاورغاء ومصراتة على طرفي النزاع. ها هم أهل تاورغاء يعيشون منذ تلك الفترة مشتتين موزعين على عدد من المخيمات قرب المدن الكبرى كالعاصمة طرابلس، حيث التقيت «أم منذر» وحفيديها أثناء زيارتي الأخيرة لليبيا.

المخيم هو الشقاء بعينه، مكان لا يمكن أن تتخيل أن أُسرًا بأكملها تعيش فيه منذ سنوات. فلا كهرباء ولا مياه نظيفة بشكل منتظم والتعليم الأساسي يديره بعض النازحين ضمن إمكانياتهم في ظروف أقل ما يقال عنها أنها مزرية. المستوصف الصحي مغلق معظم الوقت ويفتح أحياناً، والرعاية الصحية للنساء والحوامل غير متوفرة داخل المخيم. وبناءً على اتفاق أُبرم أخيرًا بين ممثلين عن مصراتة وتاورغاء، فقد بدأ بعض النازحين بالعودة إلى مدينتهم لكن لم يستطيعوا الوصول إليها بسبب تصدي مجموعات مسلحة لهم ومنعهم من المرورعبر نقاط التفتيش بحجة أن الاتفاق لم توافق عليه فئة من سكان مصراتة. وقد عبّرت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في بيان لها عن عميق أسفها لعدم السماح للعائلات بالعودة إلى تاورغاء وتنفيذ اتفاق المصالحة.

لست بصدد تقييم وضع النازحين في ليبيا، لا سيّما وقد أظهر مسؤولو حكومة الوفاق الوطني درجة عالية من الاهتمام بإيجاد حل لوضعهم خلال النقاشات التي دارت أثناء زيارتي الرسمية لهم، وقالوا إنهم يساندون جهود المنظمات الإنسانية بما فيها هيئات الأمم المتحدة في محاولة التوصل إلى اتفاق يضمن لعودة النازحين إلى مدنهم.

استحضرت زيارتي لليبيا في ذهني صورًا وقصصًا من نازحي سوريا واليمن والعراق وغزة والسودان وغيرهم من النازحين، في بؤسهم وبعدهم عن بيوتهم وجهلهم بما يخبئه لهم المستقبل فوضع النازحين في ليبيا لا يختلف كثيراً عنه في مختلف الدول العربية، إلا أنهم لم يثيروا اهتمام الرأي العام فبقيت مجموعات عديدة من الليبيين خارج مدنهم تمامًا كما هو حال سكان تاورغاء، يعيشون في مخيمات متفرقة قد يفوق عددهم 165,000ألفاً بحسب مفوضية الأمم المتحدة للاجئين. في الوقت الذي أمضيه في المخيم، أرى الأطفال يمرحون أمام مكان يبدو أنهم سوف يتلقون فيه درسًا بعد قليل إذ وضعوا كتبًا وأقلامًا على الأرض. وأرى شابًا مقعدًا يجلس على كرسي في ظل خيمة، وتمر أمامي امرأة حامل أكاد أجزم أنها لم تتلق رعاية طبية أثناء حملها وقد لا تجد من يعينها أثناء الولادة بعد أسابيع. وها هو المراهق الذي إن لم يجد مكانًا له في المجتمع فجلس ينظر في الخلاء أمامه، لعله يخطط لرحلة يشق فيها البحر ليصل إلى بلاد جديدة.

ليبيا بلد احتار معه مسؤولو المنظمات الدولية، فهو بلد غني بموارده الطبيعية والبشرية، مع معدل التحاق بالمدرسة كان من أعلى المعدلات قبل بدء الأزمة السياسية عام 2011. إلا أن سنوات من نظام سياسي حدَّ من قدرة الناس على تحقيق الكثير من إمكانياتهم أدت في الأخير إلى ثورة شعبية تلتها عدة سنوات من النزاع المسلح والتخبط السياسي نتج عنها وضع إنساني حرج بالنسبة للكثيرمن الليبيين وغير الليبيين ممن يعبرون ليبيا في محاولتهم الوصول إلى البلاد الأوروبية في رحلة بحث عن فرص أفضل.

أتاحت لي زيارتي لطرابلس فرصة أن أشاهد مبادرات متقدمة ورؤى بعيدة النظر وجهودًا خلاقة للعمل على فكفكة الوضع الليبي المعقد. وقد التقيت بوزراء ومسؤولين وممثلي المنظمات الدولية خصوصًا الإنسانية منها والتي تسعى لوضع برامج سوف تسرع، لوعملت وفق خططها، من الاستجابة لحاجات الليبيين عمومًا ولغيرهم ممن تضرروا من سنوات الحرب.كما أتيح لي لقاء بعض السيدات الرائدات المتميزات من القيادات النسوية الليبية، وبعددٍ من الشباب المفعم بالأمل والطاقة والأفكار حول مستقبل ليبيا خلال السنوات العشر القادمة. لكن في ذات الوقت وجدت أن النازحين يستحقون أن يسلط عليهم الضوء حتى يكونوا جزءًا من الحل.

لقد علمتني تجربتي في صندوق الأمم المتحدة للسكان، وهي الهيئة الأممية المعنية بالصحة الإنجابية وبدعم الشباب بغية تحقيق إمكانياتهم، أن الاستجابة لحقوق البشرلا تقف عند لون أو منطقة أوعرق أو دين أو طائفة، لذا فإن أي خطة للمساعدات الإنسانية ومناصرة حقوق الناس يجب أن تكون شمولية ومتكاملة لصالح كافة البشر الموزعين في البلد .

أتمنى أن تحصل «أم منذر» على الدعم والمساعدة وأن تجد السيدة الحامل طريقها إلى مركز صحي يؤمن لها ولادة آمنة. لكن ما أتمناه فعلًا هو عودة «أم منذر» وغيرها إلى بيوتهم، وأن تعود «الواحة الخضراء»، وهو معنى كلمة تاورغاء باللغة البربرية، إلى عهدها السابق، مدينة غنية بشجر النخيل والفواكه، وأن يعود معدل الالتحاق بالمدارس كما كان. أتمنى أن تأخذ ليبيا المكانة التي تستحقها وفقًا لموقعها الجغرافي ومصادرغناها وفخر أهلها بانتمائهم لها.

*لؤي شبانه هو مدير صندوق الأمم المتحدة للسكان للمنطقة العربية