Atwasat

إشكالية العدالة الانتقالية في ليبيا

الشيباني أبوهمّود الأربعاء 25 أبريل 2018, 12:18 مساء
الشيباني أبوهمّود

منذ حوالي ثلاثة عقود، بدأت فكرة العدالة الانتقالية تدخل أدبيات الفكرالحقوقي العالمي وذلك بسبب ما شهده العالم من حالات انتقال متسارعة من أنظمة حكم دكتاتورية إلى حالات من الانفراج السياسي، ومن حالات نزاعات مسلحة وحروب أهلية إلى حالة من السلم والتحول الديمقراطي. فالمجتمعات التي مرت بهذه الظروف وجدت نفسها أمام معضلة رغبتها في تحقيق العدالة وإنصاف المتضررين من حقبة الاستبداد من جهة، ورغبتها في تحقيق الاستقرار والسلم الأهلي الذي يتطلب إخضاع قواعد العدالة لمواءمة ما تلا يمكن تحقيقها إذا تم التمسك بقواعد العدالة بمفهومها التقليدي، من جهة أخرى. إذاً فهي عدالة انتقالية في توقيتها وفي طبيعتها الاستثنائية. فالعدالة الانتقالية بهذا المعنى، والتي عرفت، في فترة ما، بعدالة ما بعد النزاعات، تعالج الماضي وعينها على المستقبل. منظرو العدالة الانتقالية متفقون على أنها منظومة من الإجراءات تبدأ بتشكيل لجنة لمعرفة حقيقة ما حدث، مرورا بمحاكمة المسؤولين عن الانتهاكات وتعويض المتضررين وإصلاح المؤسسات وتنتهي بحفظ الذاكرة الوطنية.

تماشيا مع هذا السياق، تعالت الأصوات في ليبيا في العام 2011 ، وحتى قبل سقوط النظام، مطالبة بضرورة تطبيق العدالة الانتقالية، بل وتم التفكير في استحداث وزارة لهذا الغرض. لقد كان واضحا، من البداية، أن هناك خلطا واضحا بين العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، بحيث تم استخدام الاثنين كمترادفين واعتبرت الأولى شرطا مسبقا لتحقيق الثانية. فسارعت الطبقة السياسية الليبية الجديدة بتبني فكرة العدالة الانتقالية، إما لاستخدامها كأداة لإقصاء الخصوم في معركتها السياسية وإما للظهور بمظهر المنفتح على أدبيات الخطاب الحقوقي العالمي.. فالصحيح هو أن العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية ليسا مترادفين كما أن تحقيق المصالحة الوطنية لا يمر بالضرورة عبر منظومة العدالة الانتقالية. فكثير من دول العالم مرت بظروف كان يمكن معها تطبيق العدالة الانتقالية ولكنها قررت طي صفحة الماضي بدون تطبيق قواعد العدالة الانتقالية، ومن هذه الدول اسبانيا وجل دول أوروبا الشرقية.

ما غاب عن متصدري المشهد السياسي الليبي هو خصوصية الحالة الليبية في بعديها السياسي والاجتماعي. فقد تم النظر إلى عينة منتقاة من تجارب الآخرين و تناسي التجربة الليبية نفسها. فمقولة الملك الشهيرة "حتحات على ما فات" لخصت رغبة النظام الملكي في طي صفحة الماضي بكل آلامه، وقد كانت تجربة ناجحة ساهمت في خلق حالة من الاستقرار المجتمعي دامت لسنوات. صحيح أن مفهوم العدالة الانتقالية لم يكن قد ظهر بعد في تلك الفترة ولكن محتواه القائم على مبدأ عدم الإفلات من العقاب كان معروفا، بل إنه كان القاعدة العامة السائدة في الخطابين السياسي والحقوقي العالميين، خصوصا بعد محاكمات نورمبرج الشهيرة.في ليبيا ليس هناك دليل علمي على وجود مطالبة مجتمعية واسعة بضرورة تطبيق العدالة الانتقالية، خصوصا وأن النظام السابق نفسه كان قد عمد في آخر عهده إلى إغلاق الكثير من الملفات والقضايا وقام بتعويض المتضررين منها. تعاطي المدن والقبائل الليبية مع رموز النظام السابق حاليا لا يوحي بأن هناك جمرا تحت الرماد من الممكن أن يتحول إلى نار إذا لم يتم تطبيق العدالة الانتقالية، كما يسوّق دعاة تطبيقها.

فالأمر يبدو مطلبا نخبويا وسياسيا أكثر منه مجتمعيا نابعا من القاعدة الشعبية العريضة. ليس فقط تجاهل خصوصية الحالة الليبية هو ما أعاق مسار العدالة الانتقالية في ليبيا، رغم صدور بعض التشريعات المتعلقة بذلك، ولكن عدم توافر الشروط اللازمة لتطبيق العدالة الانتقالية في ليبيا هو ما حال دون تقدم هذا المسار. فلتطبيق فكرة العدالة الانتقالية لابد من توافر شرطين أساسيين، هما: انتهاء الصراع، ووجود حكومة ذات مصلحة سياسية مباشرة في تطبيق العدالة الانتقالية. من الواضح أن هذين الشرطين غير متوفرين في الحالة الليبية. فالصراع السياسي وحتى المسلح لا يزال مستمرا. فما إن سقط النظام حتى دخلنا في صراعات أخرى وقد ترتب على هذه الصراعات انتهاكات جديدة تجاوزت أحيانا انتهاكات النظام السابق، وبالتالي فإن آثارها تحتاج هي نفسها إلى معالجات إما عبر أدوات العدالة الانتقالية أو من خلال مصالحات مجتمعية. استمرارية الصراع تعني ببساطة أننا لم ندخل بعد في مرحلة التحول الديمقراطي الذي لا معنى لأي عدالة انتقالية بدونها. استمرارية الصراع هذه ضاعفت من أعداد الضحايا ومن أعداد المسؤولين عن الانتهاكات، وأهم من ذلك، زاوجت في بعض الأحيان بين المراكز القانونية للأشخاص. فبعض ضحايا انتهاكات النظام السابق أصبحوا الآن مسؤولين عن الانتهاكات والعكس صحيح أيضا، فمن يحاسب من؟ ازدواجية المراكز القانونية هذه ستؤدي بالضرورة إلى معارضة حامليها فتح ملف العدالة الانتقالية في الوقت الحالي، وهذا ربما يفسر التلكؤ الذي حدث في إصدار اللائحة التنفيذية لقانون العدالة الانتقالية رقم 29 لسنة 2013.

غياب السلطة ذات المصلحة المباشرة في تطبيق فكرة العدالة الانتقالية أدى إلى عدم وجود إرادة وطنية تسهر على نجاح هذا المسار. فالعدالة الانتقالية، مثلها في ذلك مثل الديمقراطية والمصالحة الوطنية، ليست حدثا تلقائيا كما إنها لم تكن في أيٍ من التجارب الدولية مجردة من الحسابات السياسية. فهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بوجود سلطة الدولة التي تعتبر الحكومات أبرز تجلياتها. وبالتالي، فإن أي حديث عنها اليوم في ظل تبعثر السلطة في ليبيا وغياب مفهوم الدولة كسلطة تحتكر وسائل الإكراه هو نوع من الترف النخبوي الذي لن يرى النور في المستقبل القريب. إن المشاريع السياسية الكبرى مرتبطة دائما وأبدا بتوقيتات محددة، إذا لم تنجز خلالها فإنها تتحول إلى مناشدات منقطعة الصلة بالواقع. فوات ما يمكن تسميته "باللحظة التاريخية" يؤدي عادة إلى تغير الحسابات السياسية، والمثال على ذلك التعثر الأخير لمسار العدالة الانتقالية في تونس. الأهم من ذلك، هو أن فوات الأوان يؤدي إلى تغير نظرة المجتمع إلى الكثير من سلوكيات الأنظمة السابقة وقد يؤدي إلى افتقاد الضحايا إلى التعاطف الذي كانوا يحظون به في فترة من الفترات. لقد أشار السيد مصطفى عبدالجليل في شهادته المتلفزة الأخيرة إلى جانب من هذه الواقائع عندما قال أن "القذافي كان يعلم بحقيقة بعض الجماعات ولكننا كنا نتعاطف معها ولم نكن نصدقه".

بالطبع، فإن هذه الشهادة لا تلزم إلا صاحبها، ولكنها وبحكم رمزية صاحبها، تعد مؤشرا على تغير نظرة الكثيرين للكثير من الملفات التي من المفترض أن العدالة الانتقالية ستتصدى لها. كل هذا يقود إلى نتيجة لا مفر من التسليم بها وهى فوات أوان العدالة الانتقالية في ليبيا، ولم يعد أمام الليبيين إلا طي صفحة هذه الخمسين سنة منذ العام 1969 وإلى الآن. فالمشهد السياسي العبثي اليوم لا يسمح بتطبيق مثل هكذا مشاريع تاريخية. إن محاسبة المسؤولين عن كل ما ارتكب قبل الثورة وبعدها من انتهاكات يعني كما قالت الأرجنتين يوما "وضع الآلاف في أقفاص الاتهام من الفاعلين المباشرين وغير المباشرين، ولو أمكن ذلك لأدى إلى تفجير حالة الفوضى".الأمر لا يتعلق فقط بالصعوبات المادية وبضرورات الحفاظ على السلم الأهلي المتفجر أصلا وبعبثية الوضع السياسي الذي من الممكن وصفه بأي شيء إلا بأنه تحول ديمقراطي، وإنما يتعلق أيضا بصعوبات أخلاقية وقانونية. فمن الناحية القانونية وبسبب الانتهاكات التي قام بها بعض ممن ثاروا على نظام القذافي فإنهم لم يعودوا أخلاقيا مؤهلين لمحاسبة المسؤولين عن انتهاكات النظام السابق. من الناحية القانونية، يصعب إجراء محاكمات سياسية للنظام السابق، كما يطالب بذلك أنصار فكرة العدالة الانتقالية، لأن ذلك يخرج عن نطاق ولاية القضاء.

فالمحاكمات السياسية فكرة غير قابلة للترجمة عمليا ولا علاقة لها بالعدالة كقيمة مجردة وأساسية. أغلب المتحمسين لتجارب العدالة الانتقالية كانوا يرغبون في القيام بمثل هكذا محاكمات ولكنهم اصطدموا بعقبات قانونية أدت إلى أن تكون نتائج هذه التجارب دون مستوى التطلعات التي صاحبت مسارها. زد على ذلك، أن محاكمة رموز أي نظام بعد سقوطه لا يمكن أن تتم إلا وفقا لقوانين ذلك النظام والتي عادة ما تعمل على تحصينه وحماية عناصره، فمبدأ عدم رجعية القوانين يمنع أي نظام جديد من إصدار قوانين تسري على الماضي. بالنتيجة، فان كثيرا من الأفعال التي ينظر إليها كانتهاكات عادة ما تكون جائزة قانونا، ولو بقوانين استثنائية.

بالطبع، من حق الناس معرفة ما حدث في السابق، ولماذا حدث، ومن حقها السعي لضمان عدم تكرار الانتهاكات السابقة، كما أن من حق وواجب الحقوقيين الانتصار لهذه المطالب، ولكن يجب العمل على ضمان أن تحقيق هذه الرغبات لا يؤدي إلى المزيد من الانقسام المجتمعي الذي يفترض أن العدالة الانتقالية تهدف إلى معالجته. فن العدالة الانتقالية يقوم على تحقيق مؤامة مقبولة بين هذه الرغبات والمصالح المختلفة، ولكن وإلى أن ينتهي الصراع الحالي في ليبيا وإلى أن يكون هناك حكومة رشيدة قادرة على استيعاب فلسفة العدالة الانتقالية وفنها فإن إجراء أي نوع من العدالة الانتقالية سيكون عبثيا وانتقائيا.