Atwasat

شبهة جواز السفر

سالم العوكلي الأحد 08 أبريل 2018, 09:02 صباحا
سالم العوكلي

حين هبطت بنا الطائرة في مطار سنغافورة، العام 1987، برفقة ثلاثة أصدقاء، كان طابور الركاب من جميع أنحاء العالم يدخل بسلاسة ووسط ابتسامات موظفي المطار إلا نحن الأربعة، حيث انحرفت بنا جوازات سفرنا الخضراء إلى غرفة جانبية وتم تفتيشنا بشكل دقيق. بعد الانتهاء من التفتيش المذل اعتذروا لنا بابتساماتهم الأسيوية المعهودة، وحين استفسرنا عن السبب أشار أحدهم إلى (Libyan) المكتوبة على جواز السفر المطمورة وسط ست كلمات متتالية هي اسم البقعة التي جئنا منها، ثم بدأ وكأنه يمسك بندقية ويطلق الرصاص عبر مؤثرات صوتية بفمه. وكان هذا المشهد المسرحي هو ما يقابلنا طيلة الرحلة حين نُعرِّف بجنسيتنا، وهذه الشهرة الليبية المرتبطة بالإرهاب هي التي كان يتباهى بها القذافي وهو يكرر مرارا قبل الفاتح لم يكن أحد يعرف ليبيا.

كتبت روايتي (اللحية) بعد ما تعرضت له من مضايقات أمنية فترة النظام السابق بسبب احتفاظي بلحيتي: "كنت أجد نفسي في سياق من الاتهام لم يعد ممكناً التغاضي عنه أو التسامح معه، وكنت أحاول أن أجعل حدوداً بيني وبين هذا السياق الذي ولجته عبر لحيتي. الأيقونة المؤولة عبر قراءة أحادية تم إملاؤها على ذهن لا يجيد أكثر من قراءة واحدة لكل علامة."

وكي أبحث عبرها عن مفهوم الشبهة الذي يلاحقنا، خصوصا تلك الشبهات التي توحي بها ملامحنا وأجسادنا أو هوياتنا، في هذا العالم الذي أصبحنا نمر عبر معابره الإلكترونية الضيقة. لم يكن مزعجا فقط في ذلك الوقت أن يكون جوازك الليبي مصدر شبهة واتهام مسبق سببه جنون شخص استطاع أن يصبغ ميوله للشر على مجتمع كامل يُحمله جريرته، ولكنه كان محزنا حد الوجع، ونحن ندفع ثمن تلك الشهرة التي تميزت بها جماهيرية الخوف والإرهاب، في الداخل والخارج.

يخلق مثل هذا المناخ الخانق إنسانا متوجسا من كل شيء، ليس لديه القدرة على التصالح مع الآخرين بقدر ما ليس له القدرة على التصالح مع نفسه، ولعل ما نراه الآن من توجس وفقدان للثقة بين الجميع إحدى تركات ذلك النظام الذي جعل من كل اجتماع أو عمل جماعي مدعاة للتوجس والارتياب المتبادل، ليتحول المجتمع أو أغلبه إلى كتلة واحدة أراد لها أن تصغي له بأذن واحدة وترى إنجازاته بعين واحدة، وتقرأ وتكتب بعين واحدة، فيغيب هندسيا ومجازيا البعد الثالث في كل معرفة، وتسقط إمكانية الحوار قبل أن يبدأ.
هذا الذهن المسطح يتحول إلى خشب، مثل تلك الألواح التي كنا نكتب عليها ثم نحفظ ثم نمحو ما كتبنا في الكتاتيب، معتقدين أننا بذلك الأسلوب نتعلم.في رواية اللحية أطلقت العنان لشخصيات مأزومة تحت سلطة مونولوجها الداخلي الذي يقودها إلى نهايات تراجيدية، إنها لا تسمع سوى صوت واحد تم تدجينه في ذهن مسطح، وكأنها منقادة بقدر تراجيدي إلى نهاياتها المأساوية أو إلى حتفها الحتمي، ويحدث كل هذا في قلب مناخ شامل من التوجس، ليس بفعل آراء أو مواقف، ولكن بوشاية علامات جسدية توحي بأن صاحبها في قلب المحاكمة قبل حتى أن توجه له تهمة، تصبح في الدنيا أعضاء الجسد شاهدة على صاحبها مثلما أقنعونا أن أعضاءنا الخائنة ستشهد ضدنا يوم الحشر.

وصغارا كنا نحفر حفرة صغيرة ندفن فيها قلامات أظافرنا، لأنهم علمونا أنها ستحاسب على ما فعلت أيدينا الصغيرة، وأنها ستشهد على ما اقترفنا من ذنوب.
يرد في رواية اللحية : "هذه العلاقة العدائية التي تم تكريسها بيننا وبين أجسادنا، وتقديمه ككينونة خائنة، هو ما رسخ مبدأ المقت له والتلذذ بتعذيبه، ومن ثم الولوج به إلى حقل الطاعة والانصياع الكامل لسلطة نجحت في تهميش هذه الكينونة لتضع كينونتها في المتن.. من هنا نبعت فكرة القرابين البشرية والتضحية بالجسد والذهاب الطوعي إلى الحروب دون التساؤل بشأنها، ومن هنا أيضاً كانت مشاريع السلطة الضخمة من أجل أن تبث الإنهاك في هذه الأجساد، ولم يكن بناء الأهرامات مثلاً إلا لدفن كينونة الجسد الشعبي في مقابر السلطة الضخمة، مثلما كانت المسارح الرومانية ملعباً تتفرج فيه العيون على هشاشة الجسد الإنساني وهو يتمزق بين أنياب الوحوش، إن قسوة الفرجة منهكة للروح والجسد، وبالتالي هي فضاء واسع لنمو الطاعة الشامل. وهذا الميراث التاريخي الكبير يعمل الآن في أكثر المجتمعات تحقيراً للجسد وإنهاكاً له، ليس من أجل التنمية أو الإنتاج، ولكنه كدح مجاني واستهلاكي، لا يهدف إلا لبزوغ عضلات السلطة المتورمة في وجه ضمور وهزال إنساني، ما عاد يطلب سوى قوت يومه.".
شاهدنا وقتها في قناتنا الليبية الوحيدة الأجساد وهي تتأرجح في المشانق، ويتأرجح بها الثوريون ويبصقون عليها ويصفعونها ميتة، وكأن الموت خنقا ـ وليس شنقا كما يفترض ــ لم يُشفِ غليل تلك الوحوش التي تربت في حضن سلطة رأت أن مثل هذه الفرجة منهكة للروح الإنسانية ووسيلة مختارة لترويض كل نشاز عن اللحن الجنائزي الذي يعزف في أرجاء الوطن.

تستمر الشبهة تلاحقنا حيث ما حطت بنا طائرة في مطار عربي أو عالمي، فكونك ليبيا لك مدخل خاص بالمطار، ولك تقنيات تفتيش خاصة، ولك أيضا ازدراء خاص، ولأنك ليبي عليك أن تحمل مع حقيبتك هذا التوجس دائما، حتى وإن كنت ببراءة فراشة، لأنك تحمل هذه الجنسية التي قدر لها أن تكون لعقود سابقة تحت وصاية نظام كان ينثر الإرهاب في أصقاع الدنيا ويدعم العصابات المتمردة أينما كانت.
والآن مازلنا نحمل معنا جريرة إرهاب غير منظم تفتق عن عقود من صناعة العنف بكل أنواعه، والأنكى من ذلك أن رأس هذا النظام وأتباعه يتباهون في كل محفل بشهرة ليبيا التي كان لا يعرفها أحد، وهي الشهرة التي أدخلتنا في غرفة جانبية في مطار سنغافورا القصي، بينما كنا نرى كل جنسيات العالم التي تشاركنا الطائرة تسير في طوابيرها في ممرات المطار دون خوف أو توجس من حكومات تثقل كواهلها بجرائمها التي على كل مسافر أن يكفر عنها. وللأسف مازال هذا العبء يلاحقنا لأن النظام الإرهابي حتى وإن سقط سيترك شبهاته حية في كل مكان، خصوصا وأن هذا النظام خلال أربعة عقود لم يجعل له بديلا حين يسقط سوى الإرهاب الوافد من كل مكان، مستغلا هذا الفراغ الأمني الكبير في أرض شاسعة لم يكن فيها الأمن يوما سوى أمن نظام عاش في ظله شعب أتقن طقوس الخوف والطاعة من أجل أن يؤمن بحقيقة أنه لن يكون آمنا إلا بأمن النظام نفسه.