Atwasat

جنيف والبصاصين الشرفاء

محمد عقيلة العمامي الإثنين 26 مارس 2018, 03:20 مساء
محمد عقيلة العمامي

سويسرا أصيبت بلعنة الحروب الأهلية مرتين؛ الأولى ما بين سنتي 1529-1531 والثانية من 1656-1712 والحربان بسبب حركة الإصلاح الديني التي قام بها (البروتستانت) ضد الكنسية الرومانية الكاثوليكية، والتي انتهت بانقسامهم 55% كاثوليك والبقية بروتستانت، ومنها عاشوا في رخاء ما بعده رخاء.
وكنت قد حدثتكم، عن سكان المدن السويسرية الصغيرة، الذين يطلقون على القادم إليهم من مدينة مجاورة (الأجنبي اللعين) والغريب أن إعلامهم رسخ الآن فكرة أن سويسرا بلد مضياف جدا، ولاشك أنكم تتذكرون ما قلته لكم عن بلدة (أرنين) السويسرية التي رفضت السماح باستخدام مشنقتهم في إعدام رجل من بلدة مجاورة، مؤكدين أن مشنقتهم صممت لهم ولأطفالهم فقط!
جنيف تعد، الآن أصغر مدينة سويسرية، ليس في سويسرا فحسب بل في العالم كله، ومع ذلك تعتبر واحدة من أهم المدن في العالم. حتى أنهم قالوا أن العالم يتكون من خمسة أجزاء هي أوروبا، وأفريقيا، وآسيا، وأمريكا.. وجنيف، التي تستطيع أن تجوبها، على قدميك من أقصاها إلى أقصاها في ساعة واحدة، والتي لايزيد تعداد سكانها عن 379 الف نسمة.
جنيف منفتحة على العالم كله، وتحتضن المقر الأوروبي لمنظمة الأمم المتحدة ومقرات عالمية دولية، وبعض منظمات الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية،منظمة التجارة العالمية، منظمة الصليب الأحمر، منظمة الملكية الفكرية، منظمة العمل الدولية، منظمة حقوق الإنسان. ناهيك عن مبنى للصحافة؛ يتحرك فيه حوالي ألفين من الصحفيين يغطون أحداث المؤتمرات واللقاءات والمهام، وهو مزود بكل ما يحتاجه هذا العمل. جنيف تعتبر مقرًا لاتفاقيات دولية عديدة، ولهذا عُرفت جنيف بأنها "عاصمة السلام".
وهي المدينة الوحيدة في العالم، التي تحتفظ بسجل رسمي يشرف عليه حامل الأختام في بلديتها، من مهامه مراقبة شجرة كستناء عتيقة من نافذة مكتبة، وما إن يبرز البرعم الأول وتأخذ الورقة الصغيرة في البروز حتى يتصل بالصحافة ويخبرها بمولد الربيع، في الدقائق التي يدون فيها التاريخ والساعة في سجل أعد لذلك منذ أكثر من قرن ونصف!.
وبسبب موقعها الجغرفي، ناهيك عن طبيعة سكانها التي لم تعد تمانع في إقراض جيرانها ما يحتاجونه من معدات، بل أصحبت ترحب بالأغراب، ولهذا السبب لجأ إليها الفنيون المهرة، ورجال الملوك بثرواتهم النظيفة جدا، وكذلك التي ليست نظيفة تماما، خصوصا من العالم الثالث، وعم الرخاء، وأصبحت قبلة معظم رجال الفكر، فعاش فيها كبارهم مثل: جون ميلتون، واللورد بايرون، وشيلي وجورج إليوت، وجوته، وبلزاك وستندال، ودوستويفسكي، وبيتهوفن، وصادق النيهوم، وإبراهيم الكوني.. وعدد آخر من كتاب عرب يتحسر بعضهم أنهم لم ينتبهوا مبكرا إلى أهمية اللغات الأخرى ليكتبوا بها مثلما يكتبون باللغة العربية، ففي جنيف تستطيع أن تتحدث بالفرنسية والألمانية والإيطالية والأسبانبة، وتقتصرالعربية في بضعة مطاعم شرقية، مرتفعة الأسعار بسبب الشيشه والطاولة. صارت جنيف مركزا للفكر الاجتماعي والديني، والجمال الطبيعي.
ذهبت إلى جنيف منذ سنوات، ليس بصفتي كاتبا، لأنني حينها كنت مسيطرا على نزواتي، وكنت أخنق رغبة الكتابة كلما رفعت رأسها، ولا تكون غايتي إلاّ بعد أن يتضخم حسابي المصرفي، ولكن ألله عفاني من هذا الداء. من زيارتي تلك اكتشفت أنها مدينة تعج بالبصاصين، فلقد رميت علبة تبغ فاضية، من عربة صديقي عبد العزيز الفرطاس، الذي كان مديرا لمكتب الخطوط الليبية، فلحقتنا سيارة مسافة طويلة، وأنار مصابيح عربيته الأربعة، وفهمت من صديقي أنها إشارة أن نقف له. وقفنا. طلب منا الرجوع والتقاط العلبة التي رميناها وإلاّ سيبلغ الشرطة. وعاد عبد العزيز والتقط العلبه تحت أنوارعربة البصاص.
وأتكأت، فيما كنت أتحدث مع الوطن، على رف غرفة الهاتف الزجاجية، في مطار جنيف، فسقط الرف. حاولت معالجته ولكنني لم أفلح، فغادرت. قابلتني مباشرة عجوزمتكئة على عكازها كانت تراقبني. قالت لي متبسمة: "هل بلغت الطواريء؟ " أجبتها متسائلا عن هاتفهم أشارت بالعكاز نحو لوحة داخل الهاتف. فعدت للهاتف متظاهرا بمكالمتهم، ولكنني كنت عاقدا النية على التظاهر بذلك فقط. وأدرت أرقاما لا علاقة لها بالرقم المطلوب والتفت ناحيتها فوجدتها متكئة على عكازها تراقبني، بل اقتربت من (الكشك) عندها كان لازما أن أتصل واتصلت وأخذوا رقم جواز سفري ووجهتي وعنواني. العجوز لم تغادر حتى تأكدت مما فعلت. شكرتها وسألتها هبي أنني لم أتصل؟ أجابت سوف أبلغ الشرطة وينتظرونك على باب طائرتك! والغريب أنهم لا يهتمون بأي شخصية كانت، حتى أن كثيرا من الرؤساء والمشاهير اشتكوا من أنهم لا يجدون من يدغدغ غرورهم ولو بالانتباه إلى حضورهم، ومن الطرائف التي قرأتها أن الرئيس ازينهاور ذهب لشراء لعبة لحفيده من محل ألعاب، فلم يهتم به أحد على الرغم من معرفتهم به، وبعد أن سدد ثمن الهدية، صافحه صاحب المحل وأخبره أن سوف يطلب الإذن من البلدية بتغيير اسم المحل فيكون (متجر العاب الرئيس). وما زال المتجر موجودا في جنيف بهذا الاسم، وكذلك البصاصين.