Atwasat

ما لا يخطر على بال الرؤية

سالم العوكلي الأحد 25 مارس 2018, 12:00 مساء
سالم العوكلي

فترة العمل على «مشروع ليبيا 2025 ــ رؤية استشرافية» العالم 2007 ، تلقينا ورشة عمل في دبي عن كيفية كتابة السيناريوهات المستقبلية للدول بإشراف بروفيسور مختص في الفلسفة والتخطيط طويل المدى من جامعة هارفارد، وسرد لنا الكثير من التوقعات الجانحة التي قامت بها مراكز تخطيط علمية وأخفقت تماما في توقعاتها المبنية على دراسات علمية ومنهجية.

أذكر أن ذلك البروفيسور كتب لنا على السبورة الإلكترونية (Leadership death) موت القيادة أو القائد. وسأل ماذا تتوقعون لليبيا حين يموت القذافي؟ وسألنا عن قوى النفوذ في ليبيا التي من الممكن أن تسيطر على الوضع بعد وفاة القائد، وأقصى ما توقعناه من كابوس حرب بين أبنائه وفقا لنفوذ كل واحد منهم وتحالفاته القبلية، وإن من يملك الدبابات هو الذي سيسيطر على العاصمة وبالتالي ليبيا.

لم نتوقع ثورة شعبية تحدث في الداخل لأننا كنا ندرس واقع الأوضاع الراهنة آنذاك، فالنظام عاد إلى حضن المجتمع الدولي قويا بثرواته الهائلة، وتم دعمه واحتضانه باعتباره النموذج التائب في المنطقة بعد أن سلم برنامجه النووي وأعطى معلومات مهمة عن أسرار مهندس المشروع النووي الباكستاني وعن الجيش الأيرلندي، وعن التنظيمات الإرهابية التي كان يدعمها، ودفع التعويضات عن جرائمه التي ارتكبها أو لم يرتكبها، وأقفل مكاتب المنظمات الفلسطينية، وصفى كل ملفاته الخارجية ما عدا ملف اختطاف موسى الصدر الذي مازال يلاحق أبناءه، وكان في ذروة قوته وفق أوضاعه في تلك الفترة. وحقيقة لو لم تقم ثورتان في تونس ومصر لما كانت فرصة لثورة مشابهة تقوم بينهما.

ظل السؤال يلاحقنا، وظلت الغوامض جزءا من احترازات الرؤية ومن انتباهها. كنت ونجيب الحصادي وزاهي المغيربي في بيته بحي قاريونس ببنغازي، ننقح ونعيد صياغة تلك الرؤية الاستشرافية وندقق في الصياغات اللغوية دفعاً لأي التباس، حريصين على أن لا نستخدم أية مفردات من قاموس المرحلة الجماهيرية أو لغتها الأورويلية، ولا حتى مفردات الربط أو الإنشاء المستهلكة عبر الخطابات المتشنجة وما صاحبها من تعبئة إعلامية، وكنا نحاول مرارا أن نتوقع سيناريوهات المستقبل في دولة أطبق عليها النظام بقوة دون أن يجهز بديلا، بل أصبح في ذروة قوته التي لم يبلغها منذ السبعينيات حين كانت شعبيته ووتيرته آنذاك تتصاعدان مع الشعارات التي كان يرفعها والأموال التي ينفقها.

لم نتوقع أبدا أن نجيب الحصادي وأسرته سينزحون بعد 7 سنوات من ذلك الحي ومن البيت نفسه الذي مارسنا فيه توقعاتنا وحدوسنا المستقبلية بكل ما أوتينا من خيال. لم يخطر ببالنا مثل هذا السيناريو إطلاقا، بل لم يخطر ببالنا قيام ثورة شعبية ضد أحد أشرس النظم في المنطقة وفي العالم، ولا خطرت ببالنا تلك النهاية المأساوية للقذافي بين أيدي الثوار. لذلك نبهنا أستاذ الفلسفة إلى مسألة الغوامض التي يصعب التنبؤ بها ومدى تأثيرها في طموح الرؤى الاستشرافية، مثلما نبهنا صاحب المشروع، د. محمود جبريل، حين اطلع على مسودة عملنا، إلى أن الرؤية ــ خصوصا في قطاع الاقتصاد ــ تعمل وفق أسعار النفط الحالية، وعليه يجب اقتراح سيناريو لو هبطت أسعار النفط فجأة. وهذا ما حدث بعد ست سنوات وأربك الكثير من الدول المعتمدة على النفط في اقتصادها.

حصل ما حصل وانتهى النظام بعد صراع عنيف مع معظم شعبه، تدخل فيه المجتمع الدولي بحماس وبطلب معلن من هذا الشعب الذي كان يُحمّل القوى الكبرى مسؤولية ما حدث ويحدث. القوى التي ملأت مخازن النظام بكميات هائلة من الأسلحة الفتاكة، والتي عملت على المحافظة على هذا النظام عبر أجهزة مخابراتها التي كانت مراراً تُطلع النظام على ما يتهدده من أخطار محلية، منذ محاولات الانقلاب عليه في السبعينيات، وصولاً إلى محاولة دخول أحمد حواس، مايو 1984، الذي قتل بعد عبوره الحدود التونسية إثر وشاية جهاز مخابرات أوربي كان يعلم بالعملية الهادفة لاغتيال القذافي أثناء افتتاحه لمعرض طرابلس الدولي، إضافة إلى انقلاب 1993 المسمى انقلاب ورفلة. كان الناس يحسون بمسؤولية هذه القوى على ما تعرض له الشعب الليبي أو معظمه من عسف وإفقار واحتقار خلال أربعة عقود، لذلك طلبوا منه التدخل من باب تصحيح أخطائها والتكفير عن ذنبها، ومن باب أن ظهور شعب أعزل أو شبه أعزل في وجه نظام دكتاتوري يقوده مجنون هو نوع من الانتحار الجماعي، ولعل ما حدث لمدينة الزاوية، والرتل المتوجه إلى بنغازي كان يؤكد هذا الخوف.

لم يتوقع الكثيرون سيناريوهات ما بعد فبراير، لكن المطلعين على تجارب نهاية الأنظمة الشمولية، والمتابعين لطبيعة الوضع في ليبيا، يدركون صعوبة مرحلة ما بعد سقوط النظام، وعبروا عن هذا الخوف مرارا، شفاهة وكتابة، ورغم ذلك جرت الأمور بسلاسة حتى انتخابات السابع من يوليو 2012، لكن تيار الإسلام السياسي الذي رعى ودعم الجماعات الإرهابية، باعتبارها مؤقتا في نفس الخندق ضد "تيار علماني" يتوهمونه، هو ما حمل ليبيا إلى هذا السيناريو العبثي الذي نعيشه حتى الآن، لأنه فكر في الميراث وفي تنظيمه الأممي فقط، وفتح البلاد لأجندات دولية وإقليمية تسعى لنفس الهدف، ومع القدرة التنظيمية، والدعم المادي، وسياسة التمكين التي يتقنها، انحرف هذا التيار بالمسار الذي اختاره الليبيون رغم خسارته للانتخابات ثلاث مرات، لكنه كان يعرف أن الحصول على المال والسلاح هو الطريق المعبد إلى السلطة وليس صناديق الاقتراع الجديدة على المجتمع الليبي، وكان يعرف أن القذافي تمكن من الحكم ومكن أتباعه وأيديولوجيته لأربعة عقود بالسلاح والمال.

وهو سيناريو فاجأ الليبيين، الذين كانوا يرددون أن ليبيا ليست العراق ولا الصومال، لكنه لم يكن غريبا لمن يتابع ما يحدث في المنطقة وكواليس العالم الحر، كنا ندرك أن الإسلام السياسي المدعوم من الدول الكبرى سيستغل فرصة هذا الربيع الجديد على المنطقة، وذكرتُ سابقا، وحين شاهدنا عن كثب تغلغل هذا التيار في مفاصل الحراك فيما بعد، أننا نشرنا مقالة في يونيو 2011 بجريدة ميادين، لصاحبها أحمد الفيتوري، عن الفاشية الأصلية، نحذر فيها من الفاشية الثالثة التي يجهز لها الإسلام السياسي ممثلا بذراعه السياسية: جماعة الأخوان، وبأذرعه العسكرية: قوة الدروع التي أسسوها بقيادة جهاديين سابقين وما يحالفها من مجموعات إرهابية أخرى، تمتد من المقاتلة وصولا إلى داعش.

يقول أمبرتو إيكو في مقالته «الفاشية الأصلية» بعد أن حدد 14 سمة لها: «إن الفاشية دائما موجودة بيننا، أحيانا على شكل لباس مدني. إن الفاشية الأصلية قابلة لأن تعود من خلال أشكال بالغة البراءة. واجبنا أن نفضحها، أن ننبه الناس إلى كل أشكالها ـ دائما وفي أي جزء من العالم».