Atwasat

هزيمة المثقف

عبد الكافي المغربي الثلاثاء 20 مارس 2018, 11:03 صباحا
عبد الكافي المغربي

أقدم هنا فهْمًا للمثقف إذ تحيق الهزيمة بوطنه الذي يُظاهره وإن كان يقمَعُه، أو تأفل شمس سماء أحلامه التي حلَّق فيها، أو إذا اضمحلت مدرسته. أريد المثقف المُخْلِص الذي لا يتقلب فكريا، وإن اعتراه التطور
فيُمِدُه بأسلحة الجدل لتوطيد الحقيقة التي يناصر، نعني رسول التقدم الإنساني بعد أن اختُتِم عهد الأنبياء، وانقطع ما كان يصلنا بالغيب انقطاعا باتا.
تنعكس مُساءلة المفكر على سيرته الفكرية، ولذلك امتدادات تستوعبها حياته
الخاصة. ومن أحشاء اقتباسنا لطه حسين (مذكرات قرينته "Avec toi: De la France à l'Egypte": "نحن لا نعيش لننعم بالسعادة." تتجلى نكبة المثقفين.
ينهزم المثقف إذا تداعى في أيام ما شُيِّد في أجيال. وأيضاً إذا دخلت أمته دائرة الظل، لأن طاغيتها العاجز عن مواجهة عدو يخوف به شعبه، سيصطنع
أعداءً من القلة الراشدة من أبناء الوطن الصالحين. ويُخذل المثقف إذا غدت حقيبة سفره أعز ما يملك. وييأس إذا جعلت عذاباته فكره يلتهم نفسه
بتوفره على قدر متضاعف من الانفعالات والمتناقضات.
وإذا كانت المجتمعات الحرة لا تعبأ بالمثقفين، كذلك هي لا تضطهدهم.
ومتى تحل المآسي تتجه الأضواء إلى المفكر. إن مشاركته عن وعي أو غير وعي في قيام السلطة المسؤولة عن الكارثة والتفلسف لها يدينه قبل السلطة نفسها (قطيعة أوروبا مع الفلاسفة الألمان لدورهم في تطور العسكرية الألمانية
والسياسة الهتلرية ذات الطابع التسلطي). ولن تجنبه المعارضة سعي السلطة لإفناء فكره. وفي حال وقوع الكوارث التي هي أبرز محرك للتقدم، تُزيح
العامة طاغيتها، وقد يمتد أذاهم إلى معارضيه. تلك طاقة الشعوب إذا استيقظت من غطيطها، إن لم تجد من تبدد فيه طاقتها أكلت نفسها.
إذا نجحت ثورة رُفِعَت إلى علِيٍّ، وإذا تعثرت فلن تلبث
قليلا أن تُوصف بالمؤامرة. ولأن انهيار الأمة راجع لحكم أهواء الفرد، سَتُرافقُه هزيمة على جميع الصُعُد، وأنجع الحلول لتسريب عدوانية الشعب توجيهها إلى المثقفين.
يتمثل الرأي السائد المثقف شخصا ينظر لمن يعيشون طفولة الفكر من علٍ، هداما للتقاليد التي تعارف عليها القوم، دائبا على قلقلة النظام وتأليب
الأهالي على الدولة. ولما كان التحجر الناتج عن الامتناع عن السؤال يكمن وراء هذه التصورات، فإن التقدم العقلي الناشئ من الفعل الثقافي يفسر
أفكار المثقفين المُغايِرة.
ويقودنا تصور المثقفين أفرادا متبحبحين إلى ما ندعوه بنكبة الكتّاب إذا عُدّوا من النخبة. والقول الصائب إن المثقف إنسان مثالي، وهو يتمركز حول عواطفه الذاتية التي رافقته منذ بداية مسيرته. وكما يريد أن ينعم
وطنه بالرخاء ولا يمن بأي بذل في ذلك فهو يناضل في سبيل كرامته الشخصية وإزاحة العقبات التي اعترضت طريقه أمام أطفاله. إنه يطالب بمستقبل أفضل لأسرته. يسرف المثقف في التسامي بأحلامه، فهو ذاهل عن الواقع الذي تنحطِم المثُل على متانة بنيانه. يكون أمام خيار من اثنين: الصمت وتعليق واجبه التنويري، أو الاستمرار في نقد القديم نقدا لاذعا (إدوارد سعيد).
إن من يعملون لدى مؤسسة يؤدون مهامهم، لا تُفرِّقُهم عن أية آلة، ثم يقصدون منازلهم ويتناولون غداءهم وينعمون بقيلولة هادئة، وعندما يستيقظون
يكتشفون أن العالم لا يمكن أن يكون أروع من ذلك. في المقابل ينهك صراعٌ سيكولوجي المثقف في المقام الأول، ثم هو صراعٌ إبيستمولوجي يهدف إلى
تعيين قيم لا يحيد عنها، ويصطدم أخيرا في صراع أيديولوجي مع النخبة. إن المثقف لا يرى العالم رائعا، وبركان الإبداع الذي يروم التدفق يزري
بالحياة المبرمجة، وهو إما أن يخسر كل شيء أو أن يُطارد فرصته في موطن بديل. ولا تزال مغريات البلاد الغربية تقود المثقف العربي إلى وجهات جديدة. ولعله من سوء حظ المجتمعات النامية أن مثقفيها يقيمون في المهجر.
ولما كانت السياسة هي المسرح الأهم الذي مثلت عليه فصول الخصام الفكري في التاريخ الإسلامي (عابد الجابري)، أخذنا نتمثل المثقف خصما لدودا للسلطة،
التي ستوظف أطرافا أخرى في الصراع (الدين...) حينها تنشب المعركة المحتومة، التي يصطرع فيها مهزومان، السلطة الأكثر قوة والأشد مَكرا،
والمثقف الأقل قوة والأكثر نُبلا. فإذا قُدِّر للمثقف دخول المعركة مكرها، جعل يحاكم الماضي بالحاضر، ويُعمل معاول الهدم في البنى القائمة، وسوف يقابل العقل الجمعي بنقد لأعلى جزئيات الماضي مكانة. سيفعل وفي
الوقت نفسه سيقر أنه لا يملك تصورات لمذاهب فكرية جديدة. ويخوض في طائفة من المتناقضات التي لا تزيد المثقفين إلا ارتباكًا وضياعا، ولا تزيد أممهم إلا يأسًا واتضاعا.
يقول إبراهام لنكون: "بوسعك خداع بعض الناس بعض الوقت، وبوسعك أيضاً خداع كل الناس بعض الوقت، لكنك لن تخدع كل الناس كل الوقت." ويقصد أنه ثمة
محكمة، محكمة التاريخ، وثمة قضاة ومحلفون، المؤرخون، سيحكمون لشهداء الزندقة
ومثقفي المنفى، وعلى كل من عذَّبَ المفكرين وغض من شأنهم. تنتصر السلطة في الحاضر، لكن أحلام الفلاسفة كثيرا ما تنتصر بعد موتهم. فهل يلتمس
مثقفونا المضطهَدون في ذلك العزاء؟ وهل يجد مضطهدوهم في ذلك رادعا؟.