Atwasat

شجرة البؤس

نورالدين خليفة النمر الأحد 25 فبراير 2018, 12:16 مساء
نورالدين خليفة النمر

مع كل تذكار للثورة الليبية التى فاجأت نفسها بغرابتها وتأخر موعدها ثلاثين عاماً وأزيد في 17 فبراير 2011 وشهراً عن انتفاضتي الشارع في تونس ومصر اللتين حُسبتا دونها ثورتين، فإني أتأمل فيها فرعاً أو غصناً من شجرة البؤس أم الثورات: الثورة الفرنسية، فيما مرحلته الفيلسوفة حنا آرندت خارطة طريق في كتابها «في الثورة» لأي فعل ثوري يتأخر عن موعد حدوثه المنطقي. فقد نادت النخب الفكرية الفرنسية ـ المنعدمة في ليبيا ـ بالحرية والمساواة والتآخى، وكان المآل مراحل الحكم شبه العسكرى النابليونى، وقرنا من التقلبات، قبل الوصول إلى نظام تعددى شبه مستقر.

النتيجة الصاعقة والمخيّبة للأمل كانت المرحلة الأولى. وقد جسدها الرعب الإرهابى وهو ما تتماهي به ليبيا الثورية من 2012 إلى2018 لانعدام وجود النخب إكراه قدرها وبؤسها. وبخصوص ما حدث في فرنسا وقتذاك وما يصير في ليبيا الثورية حتى اليوم نحن في المرحلة الأولى حيث تنشعب تطلعات المجتمعية البشرية إلى شطرين رغائب وتطلعات مَن صعد مالياً في غياب القانون وأكل وشبع بما سرق ونهب فصارت الحقوق السياسية والمجال العام المنفتح من أولويات رغائبه الأيديولوجية والمصالحية.

وهو ما لايتماشى مع تطلعات مَن يتعطش لأوضاع مادية أقل بؤسا، فيشكل انفتاح المجال العام بالنسبة له فرصة لتفريغ طاقات وشحنات مدمرة، قد تضطر أن تستجيب لها النخب ـ حتى في النسخة الليبية المشوّهة ـ أو تعمل على كبتها، وربما ترى فى ذلك فرصة سائغة. وقد تؤول الأوضاع لسيادة الرعب والقمع بطريقة أشرس مما كانت عليه فى ظل النظام السابق، جزئيا، نتيجة تحرك قضايا الحريات السياسية والمدنية والعامة إلى بؤرة المشهد، وتحولها إلى إشكاليات مركزية متنازَع عليها.

الفرنسية مدام دي ستايل السيدة في مهب السياسة التي عاصرت حدث الثورة الفرنسية من رؤية طبقية وسياسية مغايرة ترى أن أفضل طرق الحكم تأتي من طريق ملكية دستورية مستعادة. ومن هذا المنطلق كتبت كتابها «تأملات حول الثورة الفرنسية» برؤية أخرى في الثورة فتُرجع بؤسها إلى تأخرها الذي غيّر من الهوية المنطقية للذين كان يجدر بهم أن يقوموا بها. فهذا التأخير هو الذي هبط بالمستوى الأخلاقي للثائرين ما أسفر عن قيام الإرهاب اليعقوبي الذي أبدت الكاتبة تجاهه كل احتقار.

فهذا الإرهاب ليس في حقيقته سوى أزمة مرعبة وتعبير عن التعصب السياسي المطلق وعن عنف الأهواء الشعبية.

التباس الأهواء الشعبية البائسة بالعنف وتأجج الكراهيات ترجعه حنا آرندت إلى نتيجة الطاقات الهائلة التى تفرغها عملية تحرر عامة الناس فى دولة متخلفة وصل فيها الفساد إلى درجة العفن ليس من فقرهم المادي، إنما من غموض وإبهام وضعهم البائس، عن طريق انفتاح المجال العام لإمكانية مناقشة أوضاعهم بشفافية الفوضى، بل إمكانية مشاركاتهم فى مناقشة الأوضاع البائسة والتعبير عن التطلعات بحرية منفلتة.تعتقد آرندت أن هذه هى نوعية الطاقات التى أفرجت عنها الثورة الفرنسية، وأن نتائجها لم تكن كلها إيجابية أو حتى حميدة، بل كانت محفّزة لمراحل الرعب والإرهاب.

في جمهورية الخوف الثورية فقط الذين يعرفون ويسلكون دروب التحرر من الحاجة المادية هم الذين يعرفون معنى التحرر من الخوف، وفقط الذين يعرفون معنى التحرر من الخوف هم الذين يمكن أن يستطعموا معنى الحريات العامة. وهنا نلتقي بمصير ماركيز دو كوندورسيه الذي عاكست الثورة الفرنسية وكان من رموزها الفكرية مقالته «إن ﻗﺎﺑﻠﻴﺔ اﻹﻧﺴﺎن ﻟﻠﻜﻤﺎل فعليًا، ﻻ ﺣﺪود ﻟﻬﺎ».

فالفيلسوف الفرنسي (1743 – 1794) الذي كتب أهم أعماله «رسم تقريبي للصورة التاريخية لتقدم العقل البشري» كان يرى أن الطبيعة البشرية يمكن أن تصل إلى الكمال، وأن التاريخ قد أظهر توجُّه البشرية نحو حضارة مستنيرة. وكان يشعر بأن الشرور تنتج عن المؤسسات المتخلفة والقوانين التي ينشِئها الحكام والقساوسة. وقد اعتقد كوندرسيه أن التاريخ ـ حتى العصر الذي يعيش فيه ـ يتكون من تسعة عصور «مراحل».

وفي العصر العاشر، الذي تنبأ أن يكون عصر المستقبل سوف تزداد المساواة بين الأمم والطبقات وسوف يتحسن حال الناس جسديًا وفكريًّا وأخلاقيًّا، وهو الأمل الذي فنّدته بحوث عالم الأجناس كلود ليفي شتراوس داعية منهج البنيوية، الحركة الفلسفية التي حدثت خطوات العقلانية الديكارتية، من خلال التشكيك في افتراضاتها حول التقدم والطبيعة الثابتة للمعنى، وشددت على أهمية التنافرات واللاوعي في الفكر الإنساني.

ألّف كونْدرْسِيه كتابه في تسعة أشهر بمخبئه بمنزل صديقته الأرملة في باريس جراء تهمة الخيانة التي أُلصقت به، بناءً على موقفه من الدستور الجديد الذي تبنّته الجمعيّة التأسيسيّة، والذي اعتبره كوندورسيه متطرّفا، وحرّض الجماهير على فسخه. فكان أن اتّهمه معارضوه بمعاداة الثورة والتآمر ضدّ المصلحة الوطنيّة الفرنسيّة حسب تكييف الحالة من طرف «الميثاق الوطني/ الجمعيّة الوطنيّة التأسيسيّة» التي كان قد تقدّم إليها بمشروع دستور أكثر اعتدالا، لكنّه رفض لارتياب المحافظين في كوندورسيه باعتباره جمهوريّاً، وارتياب اليعاقبة les Jacobins فيه باعتباره أرستقراطيّا يسعى إلى أن يكون الدستور الجديد في مصلحة البورجوازيّة.

وخشية من ملاحقة الأمر بالقبض عليه غادر مخبأه عند صديقته، وبعد يومين من الجوع والتشرّد في أطراف باريس، التي كان نائبا عنها في البرلمان وأحد نوابها البلديين، وهي مفارقة شاذّة الحدوث، قبضت عليه الشرطة مُنهكا، وأودع السجن، ومن ضروب سخريّة القدر إرادته لنيكولا دي كونْدرْسِيه أيضا، أن يموت في ذات الليلة التي سجن فيها على إثر جلطة في أحد عروقه.

و لعلّه مات مسموما أو مقتولا وفق روايات أخرى غير مؤكدة. فأنزل الستار على حياة هذا العالم والفيلسوف العبقري الذي قدّم للإنسانية جليل الخدمات، لكنّ سلطة بلاده الجمهورية تنكّرت له في لحظة تحوّل ثوري، وتعاملت معه كما لو كان ناقل الوباء المُمرض ورغم نهايته الأليمة، إلّا أنّه، يبقى قامة سامقة وعظيمة في تاريخ فرنسا والعالم، لا فقط باعتباره سياسيّا صاحب مشروع إنساني، بل وكذلك - وهو الأهمّ- باعتباره عالم رياضيات فذّ، وفيلسوفا تنويريا يقدّس سلطة العقل ويعتبرها فوق كل سلطة دونها.

حسب رأى حنا آرندت، فإن الثورات لا تزيح الأنظمة، إنما تُعتبر انعكاسا لفراغ ناتج عن تآكل السلطة من الأصل. والثورات تصبح ثورات فعلا فقط عندما تتواجد قوى يمكن أن تملأ الفراغ بفاعلية. أما الذى يحدث بعد ذلك فلا يعتمد فقط على الظروف الفكرية والمادية، إنما على جودة التكوين الذاتى، بانعكاساتها الأخلاقية والسياسية، لمَن هم مستعدون لتحمل المسؤولية. الفيلسوفة والسوسيولوجية الألمانية تلميذة الفيلسوف هيدغر الموالي ضمنيا للنازية التي افتعلت لليهود من بني جنسها المحارق والتي اضطرها الظرف النازي إلى أن تلتجئ إلى آميركا تقريبا توجه رسالة ضمنية لليبيين في مأزقهم الثوري!