Atwasat

ليبية اليسار المسعودي

نورالدين خليفة النمر الأحد 18 فبراير 2018, 01:29 مساء
نورالدين خليفة النمر

اتبع الأرستقراطيون والراديكاليون في عام الثورة الفرنسية 1789ترتيبات للجلوس  في الاجتماع الأول لمجلس الطبقات، موضعت اليسار كما اليمين في اختيار الموقف المتاح إزاء إكراهات الزمان والمكان. وتتوجّه الوطنية التي اشتعلت في ضميرها مشاعر العروبة، وعقيدة الإسلام لتخوض معركة الاستقلال بنهاية الأربعينيات لتنطفئ الجذوة في ليبيا في 24 ديسمبرعام 1951 بإعلانه. فيتّم  استبدال أمة بنشيد وعلم مقدّس في هيئة وطن كمصادرة على المطلوب تم تفريغها من محتواها المنطقي الذي تجاوزه منطق الحادثات في أسماء الأحزاب: الحزب الطرابلسي الوطني "1946 "الجبهة الوطنية المتحدة" 1946" حزب الكتلة الوطنية الحرة" 1946 "هيئة تحرير ليبيا "1947"المؤتمر الوطني الطرابلسي"1949 "حزب الاستقلال "1949" بينما ينفرد "1947 " بالطرابلسي فقط حزب العمال . 

 في منظور المبحث السوسيولوجي تُضمّن الظاهرة السياسية كموقف ملتزم في  السياقات الاجتماعية وعناصرها من ضروب السلوك والتفكير والشعور الاجتماعي التي لا توجد فقط خارج وعي الفرد، بل تميزّها أيضا بقوة آمرة قاهرة تفرض نفسها على الأفراد. ومن هنا ينطرح الرهان على تحييد الوعي، أي إفراغ الظواهر الإنسانية من خاصيتها ليتسنى موضعتها، فالوعي كما يقول كلود ليفي شتروس "عدو العلم".
هذه التوطئة الدوركايمية لابد لنا من تخفيفها حتى يمكننا إلى حدٍ ما موضعة اليسار المسعودي ـ نسبة إلى السياسي والصحفي فاضل المسعودي الذي رحل  في الأيام الماضية وأترابه من الوطنيين الليبيين ـ في سردية كيان ليبي مقذوف به كما يكتب الوجوديون في الوجود في العالم، الذي انقسم للتوّ في حرب باردة بين قطبين قطب الرأسمالية الإمبريالية ممثلتها أميركا التي هيمنت فأمركت الغرب الشائخ  المتقمّص أوروبا المنهكة في الحرب المنتصرة بتعب، والاتحاد السوفياتي نموذج الاشتراكية، الذي دفع تكلفة الحرب العالمية الباهظة فكان جزاؤه أن يبتلع شرق أوروبا المنتهكة بالنازية التي انتصر عليها باسم ضمير العالم الاشتراكي في قالب رأسمالية الدولة السوفياتية.
الكاتب مفتاح السيّد الشريف، الذي كان شاهداً شخصيا على ولادة اليسار المسعودي في القاهرة ـ في رسالة جوابية عن استفسارنا منه ـ يؤكد أن المسعودي كان كغيره من الطُلاب الليبيين في مصر، من أتاحت لهم القراءة استيعاب الأفكار والنظريّات التي بدأت تهلّ وتجتاح المنطقة بما فيها الأفكار الاشتراكيّة وفي مقدّمتها النظريّة الماركسيّة. وكان المسعودي من المحسوبين على هذه الفئة الليبية لصيقا بأبرز متزعّميها علي بوزقيّة الكاتب الذي سينشر منتصف الـ70 ينيات من القرن الـ 20 مجموعه القصصي بعنوان "فريق النجدة".
اليسار المسعودي مفارقة الوطنية وامتيازها بحدث الاستقلال ففي نهاية الأربعينات، تخوض الوطنية الليبية غماراً سياسيا صعبا فى انتظار مولد دولة، ـ وحسب الصحفي المهدي كاجيجي ـ، اختلف المنتصرون فى الحرب العالمية الثانية فحصلت ليبيا على الاستقلال، طويت صفحة الاحتلال الإيطالى وبدأ الحراك السياسى تقوده أحزاب وجمعيات وليدة على رأسها وجاهات قبلية وعائلية و قيادات وطنية من مختلف التوجهات الفئاتية. أما الاتجاهات السياسية التي تجاوزت حدود التوجهات الاستقلالية فتأتي فيما بعد عام 1953 وماخسرته وطنية الطاهر الزاوي كاتب جهاد الأبطال الذي صادرت مضمونه إكراهات الجوار الإقليمي  كسبه اليسار المسعودي  بإعلان الاستقلال: ليبيا وطن واعد بهامش الحركة إزاء إكراهات المكان القاهرة عاصمة مصر العروبية الصاعدة والزمان الشعارية الملتبسة بالبرجوازية المصرية الممثلة في ضباط الجيش المصري الأحرار وتذبذبهم بين يمين العالم الذي تقوده الرأسمالية المتوحشة تمثلها أميركا الأمبريالية، و يساره  الذي تقوده الاشتراكية ممثلة في رأسمالية دولة السوفييت. 
 يرسم أستاذ التاريخ الليبي الحديث صلاح الدين السوري خطاطة للوطنية الليبية كما توزّعتها توجّهات شباب خمسينيات وستينيات القرن الماضي وكما عاشها وعايشها: فقد تكوّٓنٓ جيل فاضل المسعودي ثقافيا في مصر أسوة بالشباب الذين توجهوا إليها، قبل تأسيس الجامعة الليبية، للدراسة في أزهرها و في جامعاتها.. و كان النهم للقراءة في تلك الفترة على أشده وفي القاهرة حاضرة العلم و الثقافة وحاضنة التيارات الفكرية، وجدوا  ضالتهم المنشودة. فكان اليسار والذي في عمومه يمثله القلة و منهم فاضل المسعودي، و في الوسط العريض كان التيار القومي، من بعث وقوميين عرب و ناصريين، وفي هامش الركب كان الاتجاه الإسلامي ممثلاً بالأخوان المسلمين، كما كانت هناك في الطرف الآخر قلة قليلة أخرى قد ركزت في خياراتها على ليبيا مجالا للعمل العلمي و الثقافي و السياسي". 
إلا أن موضعة اليسار المسعودي تاريخياً يحسمها الكاتب الموّثق سالم الكبتي في مقاله تاريخنا الثقافى المجهول نقتطف منه أنه  فى يوم الخميس 27 مايو 1954 صدر العدد الأول والوحيد من مجلة المعركه تولى رئاسة تحريره المسعودى  مع محمد الطشانى وفريد أشرف، ممثلاً عن حاضرتي الشرق الليبي بنغازي ودرنة واحتوى افتتاحية للمسعودى عن ثورة يوليو المصرية ومقالة له أخرى عن الشاعر الوطني الدرناوي إبراهيم الأسطى عمر ومقالة عن إقليم فزان لمحمد عمر الطشانى ومقال واجب الصحافه لفريد أشرف وفي الأدب شعراء سكتوا لعلى أبوزقيه. كما حمل الغلاف رسما كريكاتوريا لمائدة المفاوضات يجلس عليها الجانبان الليبى والبريطاني تتوسطهما وليمة كبيرة  وعلى الجانب الآخر الشعب الليبى معترضا قائلا لهم "اللهم أنى صائم". مقالة "الهازلون فى وقت الجد" لمفتاح السيد الشريف ـ بتوقيع عبد القاهرـ استبقت الاتفاقيّة الليبية الأمريكيّة التي كانت قيد التوقيع عليها من قبل رئيس الحكومة الملكية الثانية مصطفى بن حليم بأن مسّت في الصميم القصر الملكي وحكومته في ثلاثة قضايا  كساد الاقتصاديات وهيمنة جشع الإقطاع ورأس المال (!) على مقدرّات المواطن. وتهديد الدستور من قبل قوى رجعية جاهلة بأبسط القواعد الديمقراطية، وخضوع السياسة الوطنية الليبية للتلاعب الدولي فيما يشبه  كُرة الروليت، حيث أصبحت ليبيا سلعة رخيصة تُباع في أسواق المعاهدات الدولية البيضاء وليست السوداء. مجلة المعركة فتحت الصراع من جديدونكأت الجرح الذي فاته: هجوم المسعودي والطشاني القاسي وشتمهما المقذع عبر راديو صوت العرب المصري لرئيس الحكومة الملكية محمود المنتصر الذي وقّع في 29 يوليو 1953 على معاهدة الصداقة والتحالف البريطانية الليبية. المجلة عبرّت باسمها عن المعركة التي ستخوضها الوطنية الليبية بكافة توجّهاتها، والتيّارات السياسية الليبية باحتلاف ألوانها لمعاداة القواعد الأجنبيّة شعارا رفعته الحراكات الشارعية الليبية حتى عام انقلاب العسكر في 1 سبتمبر 1969. والمجلة التي كانت تتجه للصدور أسبوعيا أوقفت بتدخل من السفارة الليبية فى القاهرة وبتنسيق مع الصاغ صلاح سالم عضو الضباط الأحرار المصري ووزير الإرشاد القومى وبتعليمات من مباحث أمن الدولة المصرية، استجابة ربما لضغط أميركي مازال له نفوذ لدى ضباط ثورة 23 يوليو المصرية 1952 وتكفيراً على استدراج فاضل المسعودى ورفيقه محمد الطشانى، عبر برنامج الراديو المصري صوت العرب للتنديد بملكية إدريس وحكوماتها الموّقعة للاتفاقية الليبية ـ البريطانية . 
 الكاتب صاحب المؤلفات التاريخية المرموقة مفتاح السيّد الشريف، الذي كتب وهو ابن الـ16  عاما مقالات في التنديد بالتضييق على المعارضين الوطنيين، وبالاتفاقية الليبية ـ البريطانية تُكشف بحوزته على الحدود المصرية فيُعاد إلى بنغازي ويطُرد من مدارسها. فيندفع إلى مرافقة زملائه المبتعثين للدراسة الذين قاسموه منحتهم وخبزهم سألته إبّان وجوده في مصر لعامي 1953 ـ 1954 إن كان للطلاب الليبيين المنقسمين مكانيا المتوحدين همّاً وطنياً ومشاعر، طلاب بنغازي في حلوان وطلاب طرابلس في المعادي بالقاهرة أي اتصال بالمصريين توجهات فكرية وسياسية أو أحزاب أو حتى بشخصيات لها حضور في المجتمع المصري، فأجابني أن صغر السن، والشعور بآخرية المصريين وانكفائهم على قضاياهم المصرية التي وضعها تغيير الملكية بانقلاب الجيش عام 1952 في مهب العاصفة، آل الطُلاب الليبيون على أنفسهم أن تكون معركتهم ليبية صميمة فمنذ انطلاقة مجلة صوت ليبيا 1952 عن نادى طرابلس الغرب الثقافى الذى أضحى لاحقا نادى ليبيا الثقافى وإصدار فاضل المسعودي بعد توقف نشاطه في صوت ليبيا لمجلة المعركة التي تتوقف لتبدأ معركتها في داخل ليبيا بترحال المسعودي من جريدة فزان في الجنوب المهمل بفزان ثم عبر الليبي والرائد وأخيراً الميدان التي أصدرها عام 1964 بحكم من المحكمة لتكون ميدانا ليسار ليبي جديد اسمه اليسار المسعودي. في مقالة قادمة نرصد ترحاله في الوطن الليبي حتى انقلاب 1. سبتمبر 1969.