Atwasat

الاستشعار عن قرب

سالم العوكلي الأحد 18 فبراير 2018, 01:02 مساء
سالم العوكلي
هذه مقالة نشرتها في نهاية التسعينيات عندما كان الخلاف على أشده على رؤية هلال شهر رمضان بين مراكز الاستشعار وبين مراكز الاستذكار، ما أدى إلى انشطار عيد فطر المؤمنين إلى عيدين:
"يقول الشاعر المتفائل: يبقى عيدها عيدين وين يا غوالي تخطروا. ويبدو هذا العام أن الغوالي اخطروا .. فانقسم الناس بين عيدين، بناء على صراع قديم بين غرور العلم ويقين الشريعة، فالمركز الليبي للاستشعار عن بعد يبدو أن لا عمل لديه سوى اصطياد الهلال في كل شهر، فلم نسمع عن اكتشاف فلكي مهم ولا عن بحث أصدره، ومع أني أميل كثيرا صوب العلم إلا أن ذلك لا يمنعني من "الريبة في قدسيته". فما يحدث لدينا لا يخلو من عناد متبادل بين حقلين للمعرفة، والذي ترتب عنه هذا الارتباك لدى الناس الذين لم يمنعهم من تدبيج سيل من الأبيات الشعرية المتهكمة على ما يحدث ولأول مرة في تاريخنا.
لكن مع احترامي للمركز الليبي للاستشعار عن بعد، إلا أنهم هذه المرة يحاولون أن يخترقوا تقليدا طقسيا بواسطة اليقين العلمي، فمثل هذه الأعياد تأتي في سياق الاحتفالات الطقسية لتي تغلغلت في وجدان الناس، لتصبح عصية على فهم النظرية العلمية أو الحسابات الفلكية، بل ويغدو المساس بها نوعا من العبث الذي لا طائل من ورائه، وهذا يحدث في كل أنحاء الأرض، ويظل الإصرار على إدخال العلم في مثل هذه المسائل المعتمدة على الحدس والإيمان ضربا من التهجين القسري بين حقلين متناقضين بطبيعتهما. ومن جانب آخر صدام متوقع بين العقل الحسابي والوجدان العقائدي. يصر علماء الفلك على علمية حساباتهم بشأن تحديد يوم عيد الأضحى منحازين للعلم قبل كل شيء مع أن منهجهم العلمي يتعارض مع واقعة العيد نفسه، ولا يمكن لنظرية علمية أن تسلم بإمكانية هبوط كبش من السماء دون أسطوانة أكسجين، وهذا ما يجعلهم مضحكين في التعامل مع مسألة لا يمكن أن تخضع إلا للإيمان والتسليم بها دون إعمال القوانين العلمية، وفي الحقيقة مثل هذا الخلط ما يسم طبيعة تعاملنا مع كثير من القضايا بشكل يجعلها فارغة من كل محتوى. فرغم كل شيء الناس موجهة أنظارهم صوب مكة ولا يمكن أن يُعِّيدوا في يوم يرون الحجاج فيه فوق جبل عرفة، ولن تقنعهم أية حسابات علمية لتبديل طقوسهم التي اعتادوا عليها، فالتقويم الهجري له أكثر من ألف عام وهو يسير حثيثا عبر الحدس البشري والرؤية المباشرة بكل أخطائها التي عادة لا تتجاوز اليوم الواحد، ولكل أمة تقويمها الخاص الذي لم تقتحمه المناظير ولا مراكز الاستشعار عن بعد.
أكرر أنني علموي حتى النخاع، مع الحرص على أن يتوجه العلم لمعاركه المثمرة ووجهاته المجدية، وكأن أزماتنا كلها تركزت في رؤية الهلال. مع العلم أن لا شيء يخضع للنهج العلمي لدينا سوى هذه المسألة، لا اقتصادنا ولا تعليمنا ولا إدارتنا ولا نقدنا ولا بحوثنا الجامعية ولا شيء، ولا يظهر علماؤنا في الميدان الاجتماعي إلا في شهر رمضان من كل عام.
أو في ذي الحجة مثلما فعلوا هذا العام.
أتمنى من المركز الليبي للاستشعار عن بعد أن يوجه مناظيره مرة إلى الأرض ويستشعر عن فرب حال الناس قبل العيد وبعده، طوابير على المصارف لقبض دنانير لا تسمن ولا تغني من جوع، وديون متراكمة، وأطفال دون لعب، وقوائم من الحاجيات المقسطة، وخسوف كامل في وجوه الناس كل عيد. وكسوف في العيون وفجوات معتمة في كل مكان.. لعلهم يكتشفون تحت أقدامهم كوكبا جديدا تتحول فيه الأعياد إلى كوابيس.". انتهت المقالة.
الناس لا يحبون أن يخترق علم عالم الشعائر، لأن هذا الاختراق قد يؤدي ليس إلى خلاف فقط حول مواعيدها ولكن حول حقائقها، لذلك ظلت المناسك محتفظة بمضامينها وبمظاهرها وبآليات التعامل المتسقة معها. لا يحبون ربط الوضوء بتخريجات الطهارة الجسمية، ولا الصوم بتجربة الجوع أو الريجيم، ولا الصلاة بالرياضة، كما لا يحبون أن تحدد التقنية العلمية مواعيد ومواقيت شعائرهم، ورغم الاستسلام لبعض التقنيات فيما يخص الساعة أو مكبرات الصوت إلا أن الرفض الكامن لهذا الاختراق مازال يقاتل على جبهات عدة.
ما جعلني أستعيد هذه المقالة هو ما حصل من صراع بعد انتفاضة فبراير خصوصا، بين الطرفين نفسيهما، وهذه المرة وأمام تراجع الروح العلمية للمجتمع، عمل عالم الشعائر على اختراق العقل العلمي وترويضه له، لذلك برزت عدة أحزاب وتيارات شعائرية شنت منذ البداية هجومها على العلمانية (اعتقادا أن المصطلح منسوب إلى العلم) رغم أن العلمانية لا تبعد عن هذا التفسير بل يشكل أحد مقوماتها، وبالتالي أصبح أي شخص يذكر العلم، أو يتحدث بشكل علمي، متهما سلفا بأنه علماني، وضمن خلط آخر ربط العلمانية برفض الدين بجملته، والمفارق أن الهجوم على العلم وعلى العقل العلمي يتم بأحدث التقنيات التي وصل إليها العلم.
من ناحية يرفض الدينيون استخدام تقنية مراكز الاستشعار للتعرف على حساب الأهلة، ومن ناحية أخرى يطرحون نظريات للاقتصاد ونظام الحكم والمصارف، وغيرها من الشؤون التي تدبرتها منذ بداية التاريخ تجارب وعقل الإنسان القادر على التطور مع تعقد وتشابك هذه المسائل الحياتية التي تُركت لاجتهاد العقل الإنساني وتطور الدماغ البشري مع الزمن.
خلط الشعائر بالعلم مضر بطبيعة هذه الشعائر التي لا تنتظم إلا في سياق موحد من اليقين والتسليم بها، كما أن خلط السياسة؛ التي أصبحت أحد حقول العلم المعقد الذي له أكاديميات ومراكز بحوث مختصة، مضر بها، لأنها لا يمكن لها أن تنتظم إلا في نسق عقلاني يخطط ويضع الاستراتيجيات بعيدة المدى للسياسات الداخلية والخارجية وفق ما يتاح من قواعد بيانات وبحوث وجداول متغيرات تفضي إلى صناعة القرارات الرشيدة.