Atwasat

ويسألونك عن جابر

عبد الوهاب العالم الإثنين 05 فبراير 2018, 02:11 مساء
عبد الوهاب العالم

من أقبح عاداتنا في ليبيا، الجهل بأولئك الذين دفعوا حياتهم ثمناً لجعل حياتنا أفضل... وجهلنا بقضية جابر زين، نموذج لهذه العادة.

جــابر، الشاب الملتهب حتى أعماقه بحلم بناء ليبيا، سارع الظلام في إخماد لهيبه.

عرفتُ جابر في بدايات عام 2012 عندما انفجرت منظمات المجتمع المدني في أنحاء ليبيا، وكان دوي الانفجار يزلزل طرابلس كل يوم بالمظاهرات والندوات وجمعيات أهلية تنمو مثل الترفاس في مواسم المطر!

وكان جابر... شابا نحيلا دائم التأنق بشكل يثير الغيرة... أسمر، دقيق الملامح... رقيق العبارات، كان كل شيء فيه هادئا بشكل لا يصدق، لا نراه مضطرباً سوى عندما يناقش، إذ يلتهب كيانه سريعا ثم يعود لابتسامته الرقيقة بعد الجدال...

منذ 2012... وحتى اختطافه يوم 25 سبتمبر 2016، وجابر وجه مألوف في الفضاءات غير المألوفة، أقصد، لن تجد جابر في السوق أو محطة البنزين وإنما في دور الفنون ومراكز البحث والندوات الفكرية والأدبية، متميزا بربطة العنق "البابيونا" التي لا تفارقه إلا نادرا...

دخل جابر عالم الكُتب والكتابة... مبكراً، عبر نوادي القراءة المنتشرة في طرابلس سنتي 2012 و2013 أما الكتابة، فكان الفيسبوك ميدانه الذي وجد فيه متابعين توافدوا على صفحته الشخصية، مسحورين بجرأته ومواضيعه الاجتماعية التي كان يختارها بعناية، بيد أن انهماكه في اختيار المواضيع، أدخله في صراعات شخصية وموضوعية تحولت لأحقاد زاحمت حياته الهادئة.

إذ لم يتفق أحد على رأي واحد في جابر، فهناك من يراه نجما لامعا، بينما يراه آخرون متطفلا مزيفا، سواء عرفوه أم جهلوه...

وكنتُ من أولئك الذين عرفوه... حسب ما سمحت به تلك الأيام المشحونة بالأحداث، وكلما التقينا تحدثنا عن العنصرية التي نواجهها كل يوم وانتقدنا حال المرأة وكنا نحلم بسذاجة... كعادة المقهورين.

حدثني ذات مرة بعد سنوات من التيه في المجتمع المدني، قال إن (ليبيا بحاجة لمفكر... يعيد تركيب هذا الكيان في أدمغتنا، بدءاً بالمفاهيم الأساسية )
ابتهجت بعبارته وأدركت أنه من القلائل العارفين بما يحتاجه الليبيون ولا يعرفونه!

لهذا أُصر على أننا نجهل جابر الذي اجتهد فأُخذ اجتهاده القابل للخطأ والصواب، على أنه تهمة.

نجهله، فنجهل السمات الإنسانية فينا ونجني على ليبيا بالسكوت عن فظائع الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، بالقبض على أمثاله... فلم يكن هو الوحيد الذي سُجن، لكنه الوحيد الذي يقبع الآن في المجهول، لأنه لا يحمل الجنسية الليبية، فجابر زين سوداني الأصل...

هذا الأصل الكريم، لوّن جلدته وطبع قلبه بالصدق... وحمله جابر إلى ليبيا وهو لم يتعد السادسة من عمره، ليشب في طرابلس ويهيم بها، كاتما أحلامه بليبيا زمنا طويلا حتى باح بأحلامه سنة 2011... ورغم ما واجهه من تعليقات جارحة وتعرضه لمواقف خطيرة بسبب جنسيته... أصر جابر على نشاطه وطفق يذكي لهيبه.

ولما انتشر خبر اختطافه، زعم البعض أنه لو ابتعد عن التدوين والمجتمع المدني، لتجنب الأذى... على تدخله في شؤون البلد، وقال اللئام ما دخل سوداني في شؤون ليبيا؟ وهو صحيح، فالكثير من الليبيين لا يدافعون عن حقوق الإنسان ولا يهمهم حال المجتمع... بيد أنهم يجهلون، فوق جهلهم بحقيقة جابر، وقائع تاريخنا، إنهم لا يعرفون التونسيين والتشاديين الذين سقطوا في ساحات الجهاد ضد الطليان وكم معلما جزائريا وعراقيا عمل في مدارس ليبيا بعد الاستقلال.. هم لا يعرفون كم من المناضلين السياسيين والباحثين والفقهاء الأجانب الذين رفعوا ليبيا بسواعدهم بعد خروجها من زلازل كالذي قلب أرضها سنة 2011 ، هم إذن، لا يستوعبون إسهامات المصريين عبد الرحمن بدوي وعبد الرحمن عزام بل يجهلون قدر الشاعر السوداني محمد الفيتوري!

هؤلاء وغيرهم كثر... جزء من ثقافتنا، إنهم شيء منا، فما بالك بالذي تربى وتعلم في بلدنا وتطوع مع إخوته في خدمتها؟

فهذا جابر زين... شيء منا، قُبض عليه دون إجراء قانوني... ودون تبرير أو أدنى معلومة عن حالته وما إن كان على قيد الحياة أصلا.

وأنا بهذه الكلمات أشهد كما شهد كثيرون قبلي، أننا عرفنا جابر، أخا، سليم النية ذكي الفؤاد، مسالما كفراشة بيضاء... قرأ فاجتهد، فكّر فناقش.. ولا صِدق لما أشيع عنه من تهم العمالة وترويج الكفر وفساد الأخلاق...

وما تميز جابر عن البقية إلا لظروف نشأته وذكائه، وهنا تصح مناقشة من يختلف عنا وقد يجوز تقريعه إذا غفل... لكنه عار على ليبيا، أن تستمر في سحق المتميزين... إننا نوصم أنفسنا بالعار أمام العالم، إذا ظللنا ساكتين عن قضية جابر زين.