Atwasat

المتشردون السعداء

محمد عقيلة العمامي الإثنين 05 فبراير 2018, 12:54 مساء
محمد عقيلة العمامي

"من تشرد مرة.. تشرد إلى الأبد "هي ترجمة لمقولة للكاتب الأمريكي (جون شتاينك): "Once a Bum always a Bum"، ولقد وردت في كتابه "رحلاتي مع (تشيرلي)"؛ وتشيرلي هذه كلبته الأليفة، أخذها معها وطاف عددا كبيرا من الولايات المتحدة الأمريكية؛ كتب خلالها مشاهداته وأصدرها في كتاب مسلٍ وعميق. كان خليفة الفاخري قد وظف هذه المقولة كمقدمة لإحدى مقالاته، وأعارني في ستينيات القرن الماضي هذه الرواية التي ترجمها في ذلك الوقت منير بعلبكي، الذي اشتهر، حينها، بتقديم العديد من الروايات العالمية إلى القارئ العربي.

السعادة لا توجد إلاّ لدى المشردين
قرأت الرواية وتحدثنا في كثير من جوانبها وأجوائها، ولأنني كنتُ مأخوذا بهمنجواي، لم أعط روايات شتاينبك التركيز الذي تستحقه من (تورتيلا فلات) التي كتبها سنة 1935 والتي قدم فيها نماذج مشردة كثيرة، وعلى الرغم من سلوكها المرفوض، إلاّ أنها كانت لطيفة، وخيرية وسعيدة وطيبة، مبرزا الفكرة الرومانسية القديمة التي تقول أن السعادة لا توجد إلاّ لدى المشردين. ومن تلك الرواية إلى مسرحية "رجال وفئران" إلى رائعته "عناقيد الغضب" التي تناولت عذابات العمال الموسميين، ومآسيهم، فكانت حينها أفضل رواياته، ثم ألحقها بـ "شارع السردين المعلب". لقد عدت، فيما بعد، إلى أعمال هذا الكاتب الجبار وانتبهت إلى عمقها.

أثناء تسكعي، بين أكشاك سور الأزبكية، في معرض القاهرة للكتاب لهذا العام، وقعت في يدي نسخة "رحلاتي مع تشيرلي" وبعد أن قرأت الفقرة التي وردت بها هذه المقولة، رأيت ترجمتها، لأنني انتبهت إلى أنها تتحدث عن فكرة تختلف تماما عما أحسست به، عندما قرأتها مترجمة منذ أكثر من أربعين عاما. ترجمة النص تقول:

"عندما كنت صبيا، كانت تتملكني رغبة في الذهب إلى مكان آخر. كان الكبار يؤكدون لي أن النضج سوف يحد من هذه الرغبة. وبعد أن نضجت، قالوا لي أن منتصف العمر سوف يعالجها بالتأكيد. وفي منتصف العمر أكدوا لي أن التقدم في السن سوف يتكفل بتهدئة هذه الرغبة. وفي الستينيات من عمري، قالوا لي أن الكهولة هي التي ستقوم بهذه المهمة. وهرمتُ ولم تهدأ هذه الحمى؛ لأن (عواية) سفينة، وضجيج الطائرات، والعربات المسرعة، توقظ رغبتي في السفر، ومازال عناق الوداع والاستقبال في محطات القطارات يغمر جسدي برعشة الرحيل، فالعناق، والأيدي الدافئة المودعة والمستقبلة، وخفقان القلب عند الرحيل أو الوصول، كل ذلك يجعلني أتطلع إلى الرحيل. نعم هرمت، ولكنني لم أشعر بتحسن؛ ما زلت (نا هو نا) تتملكني روح التشرد؛ فمن تشرد مرة تشرد إلى الأبد؛ إنه مرض لا شفاء منه".

الآن من بعد أن قرأت (تورتيلا فلات) عرفت أن (شتاينبك) يقصد تلك الحالة الرومانسية، التي تفضي إلى السعادة والهناء والراحة لا توجد إلاّ لدى المتشردين. والتشرد ليس حياة البؤس والعوز، ولكنه عدم الانتماء لمكان محدد وإنما الانتماء إلى أرض الله كلها، كانت ثمة أفكار تعيد الانتماء والعبادة إلى أرض كلها.. إلى أشجارها وأنهارها، إلى طين الأرض أينما كان .. فليس تراب بلادي هو الغالي فقط، وإنما تراب أرض الله كله غالٍ .. ألم يقل في محكم آياته : " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها".

فالهجرة إلى الله، أفضل بكثير من جيرة هذا الذي يحرم طفلك من العودة إلى بيت أمه الذي لم يره طوال سبع سنوات عجاف، إلاّ بعد أن تسدد، مسبقا آثام الآخرين. أليس التشرد أفضل من جيرتهم؟