Atwasat

دروس مستقاة من أكبر صندوق ثروة سيادية في العالم

عمرو سعيد الختالي السبت 03 فبراير 2018, 01:17 مساء
عمرو سعيد الختالي

بدأ صندوق الثروة السيادية في النرويج (GPF-Global) كصندوق للمعاشات التقاعدية الحكومي العالمي، وفي عام 1990 أصبح صندوقاً للمعاشات التقاعدية للسكان من أجل توفير احتياطي مالي للأجيال القادمة.

يتلقى هذا الصندوق تمويله من إيرادات النفط في البلاد وليس من مساهمات المعاش التقاعدي، لهذا لم يتلق الصندوق أي مساهمة مالية حكومية حتى عام 1996 عندما بدأ رحلته الاستثمارية المدهشة في العالم المالي الدولي.

يمتلك الصندوق اليوم ما تبلغ قيمته أكثر من تريليون دولار أميركي من الأصول تحت الإدارة ويتحكم بما يزيد على 1.3% من الأسهم المملوكة في العالم، ومن المتوقع أن تبلغ قيمة الصندوق 3.3 تريليون دولار أميركي بحلول عام 2030.

يستخدم صندوق المعاشات التقاعدية الحكومي العالمي توجيهات أخلاقية صارمة في قراراته المتعلقة بالاستثمار

يبلغ الناتج المحلي الإجمالي في النرويج حالياً 370 مليار دولار أميركي، وهذا يجعل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 71,000 دولار أمريكي؛ إذ يأتي نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في النرويج في الترتيب الثالث في العالم بعد لوكسمبورغ بمقدار 105,000 دولار أميركي وسويسرا بمقدار 79,000 دولار أمريكي. ومن المهم التذكير بأن نسبة البطالة كانت في النرويج في عام 2017 تبلغ 4.7%.

السؤال الأهم هنا هو كيف تمكن بلد صغير يبلغ تعداد سكانه 5.3 مليون نسمة فقط من بناء اقتصاد قوي وراسخ يتمتع بوفورات كبيرة، بينما فشلت في ذلك عدة بلدان كبيرة أخرى منتجة للنفط؟ أعتقد أن الجواب هو الانضباط المالي.

هذا المقال لن يغطي نجاح النرويج الاقتصادي، بل سيركز على خصائص الصندوق، مثل الشفافية (Transparency) والممارسات الأخلاقية (Ethical Practices)، مما يجعله نموذجاً جديراً بالاقتداء والاحترام في عالم صناديق الثروة السيادية.

وزارة المالية النرويجية هي مالك صندوق المعاشات التقاعدية الحكومي العالمي (GPF-Global)، ويقوم مصرف نورجس (Norges Bank) (مصرف النرويج المركزي) بإدارة الصندوق بموجب اتفاقية إدارة، في حين يقوم البرلمان النرويجي (Storting) بتقديم المشاورة والموافقات.

وتضع وزارة المالية معايير المحفظة لكي يقوم مصرف نورجس (Norges Bank) باتباعها، فهي تضع الاستراتيجية وتخصص الاستثمار، بما في ذلك المواقع الجغرافية وتوجيهات تصفية الاستثمارات. تقوم الوزارة بذلك بشكل مستقل وبدون أي تأثير من مدير عمليات الصندوق، وهو مصرف نورجس (Norges Bank).

منذ البداية، ركز الصندوق على تحقيق هدفين اثنين: الربح والاستثمارات ذات المسؤولية الاجتماعية، وفي عام 2008، أعلن وزير مالية النرويج أن قراراتهم الاستثمارية لا تتأثر بالسياسة، وأن الصندوق هو مستثمر مالي وليس مستثمراً استراتيجياً.

يستخدم صندوق المعاشات التقاعدية الحكومي العالمي (GPF-Global) توجيهات أخلاقية صارمة في قراراته المتعلقة بالاستثمار وتصفية الاستثمار، وفي الواقع فإن هذا الصندوق هو من بين عدد صغير جداً من صناديق الثروة السيادية في العالم من حيث تبنّيه تدابير صارمة من هذا القبيل؛ فالصندوق يُدار بدرجة عالية من الشفافية وكشف المعلومات.

منذ البداية، كان الصندوق أحد المشاركين في مجموعة العمل الدولية (International Working Group) التي يرعاها صندوق النقد الدولي (IMF)، وكذلك كان من المشاركين مع مبادئ سانتياغو (Santiago Principles) التي تشجع الشفافية والمساءلة والحوكمة في تعاملات صناديق الثروة السيادية.

وفي عام 2004، وبموجب مرسوم ملكي، أنشأ مصرف نورجس (Norges Bank) مجلس الأخلاقيات (Ethical Council) للتأكد من التزام الصندوق بتوجيهاته الأخلاقية الصارمة. ويتكون المجلس من خبراء ومهنيين في مجالات مثل القانون والاقتصاد وحقوق الإنسان والعلوم البيئية، ويقوم بمراجعة الاستثمارات وإصدار تقارير إلى وزارة المالية لاتخاذ إجراءات بشأنها.

أنصح من واقع خبرة عملية وحياتية أن تتجه الصناديق حديثة التشكيل إلى الاستفادة من النموذج النرويجي

منذ تشكيله قام المجلس، وكجزء من توجيهات الصندوق الأخلاقية، بتقديم توصيات لوضع ما يزيد على 50 شركة على القائمة السوداء واستبعادها من محفظته، فاستبعدوا شركات من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وكندا وروسيا بسبب تورطهم في إنتاج الأسلحة.

وقد أوضح الصندوق بأنه لن يستثمر في أي شركات تنتج أسلحة وتبيعها في مناطق نزاعات نشطة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه التوجيهات الأخلاقية لا تسمح بإدراج شركات متورطة في انتهاكات حقوق الإنسان أو الفساد أو عمالة الأطفال أو الأضرار البيئية الشديدة. وتدخل شركات التبغ في الحظر كذلك.

يحظى الصندوق بمكانة كبيرة في مجموعته بسبب الشفافية التي يتميز بها. ففي عام 2007، قام صندوق المعاشات التقاعدية الحكومي العالمي (GPF-Global) بدعوة الشركات إلى أن تكون أكثر شفافية في تسديد الضرائب في محاولة منه لمكافحة الملاذات الضريبية. ومن الجدير بالذكر هنا أن الصندوق يمتلك حصصاً في أكثر من 9000 شركة حول العالم.

تفرض وزارة المالية والبرلمان (Storting) على الصندوق إصدار تقارير فصلية وسنوية إلى وزير المالية بشأن مراجعة السوق والقيمة السوقية. وتتناول التقارير كذلك المسؤولية الاجتماعية للاستثمارات والحوكمة، بما في ذلك حماية البيئة. ويقوم مصرف نورجس (Norges Bank) بنشر هذه التقارير على موقعه عبر الإنترنت ليتمكن الجمهور من الاطلاع عليها.

إيرادات النفط تمول الصندوق السيادي النرويجي وليس من مساهمات المعاش التقاعدي، لهذا لم يتلق  أي مساهمة مالية حكومية حتى عام 1996

وكجزء من جهوده المتواصلة في مجال الشفافية، ينشر الصندوق كذلك تقارير فصلية تتضمن ملخصاً لأنشطة مصرف نورجس (Norges Bank). وتوثق هذه التقارير الفصلية جميع الاتصالات مع الشركات، وكذلك التصويت في الاجتماعات العامة واجتماعات مجلس الإدارة، وخاصة بشأن القضايا المتعلقة بالحقوق البيئية وحقوق الإنسان وحقوق العمالة.

لقد أوردتُ هذا المثال الحي الذي نلمس نتائجه، ويمتلك موارد مادية هي أقل من سواه من بلدان منطقتنا، للتأكيد على فكرة مفادها أن الإدارة والإرادة هي ما ينقص هذه البلدان لتنهض وتنهض شعوبها. ولهذا أنصح من واقع خبرة عملية وحياتية أن تتجه الصناديق حديثة التشكيل، والصناديق الموجودة في مناطق من العالم التي توجد بها مؤسسات ديمقراطية ضعيفة، إلى الاستفادة من النموذج النرويجي "صندوق المعاشات التقاعدية الحكومي العالمي (GPF-Global) كنموذج للنمو وتعزيز الهياكل الداخلية والحوكمة.