Atwasat

الانتخابات المليونية

نورالدين خليفة النمر الأحد 21 يناير 2018, 05:34 مساء
نورالدين خليفة النمر

تتمحور الديمقراطية في العالم الرأسمالي الذي تتجاذبه اليوم العولمة والانكفائية تدريجياً في الانتخابات وملحقاتها حول: الاستفتاءات واستقصاءات الرأي، وفي محيطنا العالمثالتي تصير الانتخابات فبركة تصطنعها الضرورة الدولية المتدخلّة في النزاعيات الانقسامية ونموذجها ليبيا بأن تكون الواعز الملزم للجميع بإجراء ماوصفناه في مقال سابق بانتخابات الواجهة. وفوضى الانتخابات التي لابدّ منها عاصرتُ شخصياً غمار عفويتها الضحل عام 2012 ورغم تشككي أدليت بصوتي فيها لانتخاب مؤتمر وطني عام بدون بنية ولاقاعدة مجتمعية تتوّفر فيها أدني شروط الديمقراطية، بل هو تلفيق مُكرّر لديماغوجية العقود الأربعة التي سبقت الحدث التغييري في ليبيا عام 2011.

ذهنية التلفيق والاستسهال في عالمنا غالبا ماتصر على تجاهل الفرضية المزدوجة بوجهيها: غياب الانتخابات يعني غياب الديمقراطية، لكن ليس ضروريا أن يكون العكس صحيحا. فالديمقراطية نظام معقّد للغاية، والانتخابات الحرة تعد شكلا واحدا من أشكال الديمقراطية، وليس مجملها. فالانتخابات هي شرط ضروري ولكنه غير كافٍ للديمقراطية، وهو ما يتطلب خلفه مؤسسات دائمة تجسد القيم الديمقراطية ذاتها.

الديمقراطية نظام معقّد للغاية، والانتخابات الحرة تعد شكلا واحدا من أشكال الديمقراطية، وليس مجملها

من الفِكر الشائعة عن الديمقراطية، فكرّة مضللة عن حجم المشاركة الشعبية في الانتخابات وهي فكرة تصوّر التمثيل في شكل حركة مصدرها بنية تحت مجتمعية. وفي هذا القاع السفلي، يجتمع جسم مشترك وواحد يمكن تسميته بالجمهور السياسي الناخب ليختار ممثليه. ولكن شعباً سياسياً ليس شيئاً أو كياناً ناجزاً قبل توليه أفعاله ومبادرته إليها، بل هو ثمرة هذه الأفعال ونتيجتها. وليس الشعب هو من يمثل نفسه بواسطة ممثليه.

فالتمثيل ـ أي نظامه وعلاقاته ـ هو ما ينتج نمطاً من الشعب. وهذا التمثيل في المجتمعات الديمقراطية الراسخة اليوم، هو مهنة تحترفها طبقة من السياسيين المحترفين يتناسل بعضها من بعض، وتدعو إلى التصديق على تناسلها شكلاً بعينه من الشعب هو الجسم الانتخابي، نتاج نظام التمثيل وعلاقاته. وإن لم تنهض، مستقلة عن النظام التمثيلي، سلطات ديموقراطية قائمة بنفسها وقوية لتنشئ شعباً آخر، متماسك الحركة ومتساوياً، غلب المنطق المرتبي، وتناسلَ الممثلون "الشرعيون"، أي طبقة محترفي السلطة، بعضهم من بعض من جديد.

الأدوات الحديثة التى تمثل الوسيط بين أى سلطة منتخبة والشعب من أحزاب ونقابات وجمعيات أهلية، في ليبيا غائبة ومنعدمة.

عندنا يعتقد كل المتغوّلون في المشهد السياسي الانقسامي الليبي عبر مؤسسات سلطة الأمر الواقع، بأن الشعب خارج المعادلة، بل غير موجود أصلاً فيها وفي أذهانهم. وهو ما يقرّ به أي مراقب مختص ومحايد، لأن الأدوات الحديثة التى تمثل الوسيط بين أى سلطة منتخبة والشعب من أحزاب ونقابات وجمعيات أهلية، إن كانت في البلدان النظيرة مغيبة، ففي ليبيا، لظروف تاريخية بيّناها مراراً في مقالاتنا، غائبة ومنعدمة.

المشهدية السياسية الهشة التي بدأت بالانتخابات التشريعة في ليبيا عام 2012 وبكل النواقص والمغيبات التي ألمت بها، لانستطيع وصمها اليوم بالعدمية المادية التي ستبدأ من الصفر في المشروع الانتخابي الجديد المقترح لعام 2018. فبعد ست سنوات من التأسيس والتدمير العشوائيين نشأت مؤسسية الإعاقة السياسية والانغلاقية الذهنية بل مايمكن تسميته بعمى البصيرة، النفق الذي يُفترض أن تكون انتخابات الواجهة الشكلية مفتاح انسداده.

فها هي الأمور القديمة في ليبيا التي ابتذلتها الفوضى بكل تشعّباتها لسبع سنوات تكرّر نفسها. فالمفوضية الوطنية العليا للانتخابات، التي شكّكت في قدرتها على إجراء انتخابات في الظروف الأمنية والمجتمعية التي تمر بها ليبيا، تقفز على شكوكها ومخاوفها وتتقدم بالتهنئة إلى جميع الليبيين بأن مؤشر التسجيل بمنظومة تسجيل الناخبين التي باشرت إجراءاتها بتاريخ 6 ديسمبر 2017 حقق رقمًا قياسيًا، بارتفاع عدد المسجلين في ظرف أسبوعين إلى2,005,084 ناخبًا.

هذا الرقم المليوني عزّز الآمال الواهمة بصعود وجوه مترشحة جديدة، من المصادر القديمة المصطنعة كالمكونات الحزبية الارتجالية بل العبثية، والجهويات والقبائليات، والمستقلين الانتهازيين والمتربحين، والأجسام غير القانونية والمحدّدة كمسمى الجيش وميليشاته أو الجماعات المتخيّلة كاللفيف الواهم بتسميته أنصار النظام الدكتاتوري السابق الذين مازالت تطالهم أحكام القضاء الدولي والمحلّي ولوائح وإجراءات المحاسبات والمعاقبات عن إرهاب وفساد دكتاتورية الـ 4 عقود وأجسام أخرى غامضة غموض الصحراء الليبية.

طرفا القوة السياسية الفاعلة في مشهد التأزم الليبي هما مع تنظيم الانتخابات

نظريا، طرفا القوة السياسية الفاعلة في مشهد التأزم الليبي هما مع تنظيم الانتخابات، فالمجلس الأعلى للدولة الملّفق الذي اصطنعه جزافاً كأمر واقع اتفاق الصخيرات والذي تتجاذبه الموقفية الأيدبولوجية الإسلامية وبرجماطيات الكانتونات الجهوية، تحفظاتُ رئيسه تبعت الشكوك في جدّية إبرامهم لانتخابات مختلفة عن تلك التي نكصوا عن نتائجها.

ومُسمّى الجيش الوطني، الذي يضم في إهابه المجموعات القبائلية في البرلمان والسلفيات المتطرّفة، ركن قائده إلى الصمت ليتكلّم باسمه دوليا الموقف الروسي الذي تتستر وراءه الأطراف الإقليمية التي تُصرّ على ضرورة أن تكون هناك موافقة موثقة للنتائج المحتملة للانتخابات من جميع الأطراف المشاركة، والمقصود الإسلاميون. كل هذه المعطيات توحي بأن إجراء حزمة الانتخابات (الدستورية، والبرلمانية والرئاسية) في 2018، مسألة موضوعة على المحك.

العملية الانتخابية التي اصطنعتها هذه المرّة فعلياً بنسبة 70% مندوبية الأمم المتحدة في ليبيا بدون تأثيرات خارجية معيقة وضغوطات ملموسة وحاسمة. الأسئلة التي تطرح نفسها فيها أين ستتوّجه الأغلبية المليونية الخادعة التي يتم بجهد حثيث ومتسارع صنعها بمنظومة التسجيل لتنتخب أيّاً كان من المطروح ذاته الذي يتكرّر ويتناسل من ذاته؟. وأية لعبة ستخوضها؟. فيما تجهزّه المفوضية العليا للانتخابات الليبية لخوض مشهدية فُرجة تشابه اللعبة في برنامج التلفزيون الألماني. من سيصير المليونير الذي يفوز؟ حيث لادور للجمهور المصطنع في الاستوديو إلا التصفيق وعلى اللعبة إضفاء التشويق.