Atwasat

من حصة التاريخ إلى شريط الأخبار العاجلة

سالم العوكلي الأحد 21 يناير 2018, 05:29 مساء
سالم العوكلي

عاشت المنطقة العربية عموما حالة من الجمود منذ أن استكان الحكم فيها للعسكر الذين وصلوا إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية، وللملوك والأمراء الناجين من ظاهرة الانقلابات منذ خمسينيات القرن الماضي. وفي العقود اللاحقة تغيرت أقاليم وأمم كثيرة في جميع أنحاء العالم، تغيرت سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وظلت هذه المنطقة متحف العالم المفتوح وفلكلوره السياسي والاجتماعي، وبدأت القوى الفاعلة تبحث عن سيناريوهات لبث الحياة في هذا الجزء المنسي من الكرة الأرضية الذي لم يعد له قيمة سوى كونه أو كون بعضه يحوي على كميات مأهولة من الطاقة التي يحتاجها العالم الديناميكي.

وتَمثل التحفيز النظري لهذه السيناريوهات في عبارات مثل "الفوضى الخلاقة" أو "الشرق الأوسط الجديد" أو غيرها من العبارات التي ما انفك يلوكها سياسيو القوى الكبرى حيال سكون هذه المنطقة ورتابتها المزعجة لتقلبات فضاءات أخرى مشابهة في العالم.

 حين انتظرت الشعوب التخلص من طغاتها عن طريق الموت الطبيعي بدأت برامج التوريث الجمهوري للأبناء

استطاعت الأنظمة بكل أنواعها من الملوك وكل أنواع الملوك تفريغ هذه المجتمعات من أية تيارات تهدد سلام كراسيها، وتوقفت مسلسلات الانقلابات بعد أن طهرت الجيوش من الضباط ذوي الطموحات السياسية، أو بعد أن أسس بعض العسكريين حزبا واحدا يصلون عبره وعبر صناديق مزيفة إلى تجديد ولايات حكمهم كل مرة بمعدل 99.99% من أصوات الناخبين، وحين انتظرت الشعوب التخلص من طغاتها عن طريق الموت الطبيعي بدأت برامج التوريث الجمهوري للأبناء القادرين على الحفاظ على استمرارية هذه النظم.

مع بداية الألفية الثالثة، وما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما تلاه من حرب على العراق والقضاء على أقوى دكتاتور في المنطقة، بدأت موجة الإصلاحات الوقائية أو المظهرية من قبل بعض الأنظمة، وكانت في معظمها شعارات إصلاح شكلية لترويض الوحش الأمريكي الذي بدأ يتحدث من جديد عن سيناريوهاته للمنطقة وعن فشل الأنظمة العميلة في كبح جماح التطرف الذي تصدره مجتمعاتهم المقموعة، غير أن ما رافق هذا الإصلاح من تنازلات فيما يخص انفتاح هذه المجتمعات على الثورة المعلوماتية كان بداية دق المسامير في نعش النظام القديم، وهي الثورة الكونية التي سماها المفكر الإيراني داريوش شايغان "الصدمة الرابعة"، والتي بعكس توقعات بعض المحللين لم تتأخر نتائجها كثيرا، حيث كانت كافية بعد عقد واحد لهز أركان هذه المنظومات الأمنية المسماة دولا، إذا ما اعتبرنا أن اندماج منطقتنا في هذه الثورة المعلوماتية بدأ فعلا مع بداية الألفية الثالثة.

كان هجوم بعض الطغاة على مواقع التواصل الاجتماعي والسخرية منها، أو محاولة قفلها أو الرقابة عليها، إجراءات بدائية ضد طوفان معلوماتي تصعب السيطرة عليه

ومن ثم كانت مواقع التواصل الاجتماعي، الفيس بوك والتويتر خصوصا، هي من تدير وتقود ثورات الربيع العربي، بداية من تونس وصولا إلى سوريا التي تحول فيها الصراع إلى يد القوى الكبرى لتصبح ساحة حرب باردة جديدة بدل ساحة ثورة داخلية، وفي جميع الأحوال لم يكن الحشد ممكنًا أو تحديد موعد للحراك، ولم تكن إدارته وتغطيته إعلامياً ممكنة دون هذه المواقع، التي تحولت إلى ساحات واقعية تدير عملية تغيير الواقع الافتراضي الذي عشناه فوق الأرض منذ عقود.

وبالتالي كان هجوم بعض الطغاة على هذه المواقع والسخرية منها، أو محاولة قفلها أو الرقابة عليها، إجراءات بدائية ضد طوفان معلوماتي تصعب السيطرة عليه، بعد أن خرج المارد من قمقمه.

الآن يشكك الكثيرون في نتائج وجدوى هذا الربيع، بل إن البعض يعتبره كارثة مرت بالمنطقة، وهو البعض العجول الذي نسي أو تناسى أن العالم الذي يركض قبلنا بمسافة ضوئية مر بأكثر من هذا الصراع دموية وفوضى، ودفع الثمن باهظا في طريقه إلى ما تصبو إليه شعوبنا.

الربيع العربي لم يفشل، فهو أسقط أربعة نظم فاشية ما كان لها أن تسقط إلا بهذه الطريقة، وما عقبها من فوضى وصراعات وحروب وحتى مجاعات في بعض الدول كان متوقعا بعد عقود من سيطرة هذه النظم الشمولية، بل هو تداعيات طبيعية لفشل وفساد كان ينخر نخاع هذه المجتمعات، بل تلك النظم نفسها هي من خطط لهذه البدائل من المخاطر التي كانت تخيف بها الشعوب إذا ما فكرت في إسقاط أنظمتها، ولكن المخاطر التي وضعوها بديلا لاستبدادهم، لا يمكن أن تسكت صوت الحرية ورغبة التغيير، بل إن هذه المخاطر هي التي سترسي في أذهان الجميع أهمية قيم مثل الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة وحقوق الإنسان وحرية التعبير وغيرها، لأننا هذه المرة دفعنا ثمنها الباهظ الذي تستحقه.

هذا كان النجاح المباشر لهذا الربيع، أما نجاحه غير المباشر فهي شظايا هذا الانفجار التي لامست أنظمة أخرى، بعيدة وقريبة، فتحسست أعناقها وحاولت أن تمتص الصدمة بإجراء بعض الإصلاحات، وكل إصلاح اضطراري هو مسمار يدق في نعش النظام القديم، فالثورة الفرنسية دفع ثمنها جيل أو أكثر من الفرنسيين لكن رياحها هي التي وصلت إلى محيطها وحقنت تلك الأنظمة التقليدية بقيمها الجمهورية، سواء تحولت هذه الدول إلى جمهوريات أو حافظت على نظمها الملكية التي تحولت مع الوقت إلى فلكلور اجتماعي وسياحي.

النجاح غير المباشر للربيع العربي تتمثل في شظايا هذا الانفجار التي لامست أنظمة أخرى، بعيدة وقريبة، فتحسست أعناقها وحاولت أن تمتص الصدمة

في بداية الثورة المصرية قال أحد الشبان: قمنا بالثورة من أجل تعطيل قانون الطوارئ في مصر فتعطل في الجزائر. بينما المغرب قامت بإصلاحات دستورية ما كانت لتحدث لولا ظاهرة الربيع العربي، وهكذا تم في أجزاء أخرى من المنطقة كانت تعتمد مبدأ الحكم الرشيد كشرعية لها، ولعل التحولات السريعة على المستوى الاجتماعي ومحاربة الفساد في السعودية دليل على محاولة التأقلم مع هذه المتغيرات الجديدة، حتى وإن كانت على المستوي الاجتماعي والتشريعي، واقتصار التغيير السياسي على الانتقال السريع للجيل الجديد من الأسرة الحاكمة، لكن الانفتاح الاجتماعي دائما مقدمة لمطالب إصلاحية سياسية، سوف تحيل هذه الممالك التقليدية مع الوقت إلى ممالك دستورية، لتغدو مستقبلا مجرد فلكلور لمجتمعات ستجتاح القرية الكونية بأوتوستراداتها الجديدة حياتها في جيتواتها المعزولة، لأنه لا بديل لذلك من أجل نجاة هذه الأنظمة من شروط العالم الجديد بأقل خسارات ممكنة. وهم يعرفون ذلك جيدا.

من جانب آخر فك الربيع العربي عقال المكبوت الضخم من التطرف الديني الذي هب بقوة على المنطقة بعد سقوط أنظمتها القمعية، ولابد لهذا المكبوت أن يخرج على السطح ليستنزف طاقته الكامنة من ناحية، ولتتم معالجته بطرق أكثر واقعية من ناحية أخرى. كان لابد لهذا التنين المطمور تحت الأرض أن يخرج وينفث ما في داخله من نيران يحرق بها ويحترق فيها.

المستعجلون ومن يحسبون التاريخ بأعمارهم أو بقية أعمارهم هم الممتعضون وهم الغاضبون وهم اليائسون أحيانا

قد يأخذ هذا التحول جيلا أو أكثر لكن كان لابد له أن يبدأ، لأنه لن يكون إذا لم يبدأ، وكان قدرنا أن نكون، وربما الجيل الذي بعدنا، جسر العبور إلى تلك الأهداف السامية التي نادى بها الحراك، غير أن المستعجلين ومن يحسبون التاريخ بأعمارهم أو بقية أعمارهم هم الممتعضون وهم الغاضبون وهم اليائسون أحيانا، والمعرفة بالتاريخ ستجعلنا نرتخي قليلا، حيث تحولات الأمم الجذرية لا تكون بضغطة زر أو تقديم روشتة جاهزة. سيمر من هنا الانتهازيون، وسراق الثورات، والخائفون من حرية الشعوب، والمشككون في قابلية هذه الشعوب للقيم الجديدة ، لكن الآلة انطلقت تروسها ولن تتوقف، وما شيده الألم من جسر لابد وأن ينقلنا إلى الضفة الأخرى، ولا مجال للعودة لأن ما خلفنا هو طريق الألم من جديد. سينظف هذا الحراك نفسه من الشوائب مثلما ينظف السيل الهادر نفسه وهو يحث تياراته قدما.

لست من أقول هذا، ولكن ملاحم التحولات التي مرت بها الأمم قبلنا تقوله، وبالتأكيد قراءة التاريخ تختلف عن معايشته ساعة بساعة، وإن مشاهدة عناوين التاريخ على السبورة في حصة مملة يختلف عن مشاهدة عناوينه في شريط الأخبار العاجلة.