Atwasat

نيرونية السلطة وغياب تراتبية الأهداف‎

وئام قشوط السبت 06 يناير 2018, 06:06 مساء
وئام قشوط

توضح أدبيات العلاقات الدولية سمات السياسة الخارجية، باعتبارها تلك السياسيات التي يصوغها الممثلون الرسميون للدول، كما تتصف بعدم اليقين الهيكلي، من هنا كانت العلاقات الليبية الإيطالية تتصف بالتذبذب الـدائم.

كانت العلاقة بين إيطاليا وليبيا، ولا تزال، علاقه تكاملية منذ أزمنة قديمة، فشمال المتوسط ملئ بالخبرات والمهارات الإنسانية، وجنوبه زاخر بالثروات الطبيعية، وعند كل اتحاد بين الضفتين تولد حضارة مزدهرة قوية كما حدث في عهد سبتيموس سيفروس.

العلاقة بين إيطاليا وليبيا لا تزال علاقه تكاملية منذ أزمنة قديمة

قضايا ليبيا فى الاستراتيجيّات الإيطالية قضايا تفاعلية، محكومة بأهداف معلنة؛ منها أهداف مركزية وهي اقتصادية سياسية أمنية، وقضايا ثقافية هامشية نسبياً، نلاحظ أن روما لاتستخدم أي نوع من الأدوات الرمزية لمحاولة التأثير والتبادل الثقافي، للعديد من الاعتبارات من قبل الجانب الليبي والمتمثلة بالإرث التاريخي الثقيل، الأمر الـذي قد يعرقل ويقوض المصالح الاقتصاديـة للجانب الإيطالي. نستشف ذلك من التراخي في عودة افتتاح المركز الثقافي الإيطالي، وهو مركز ثقافي هام يـتـبـع السفارة الإيطالية بطرابلس، الذي تم إقفاله رسميا في فبراير 2015، وفعلياً في أغسطس من ذات العام، إلا أن وزير الخارجية أنجيلينو ألفانو أعلن مطلع ديسمبر من هذا العام، عن مبادرته بخصوص التبادل الطلابي، والتوقيع على اتفاقية مشتركة لبرنامج ايراسموس للمتوسط، الذي اعتبر أنه سيساهم في تعزيز المعرفة المشتركة والتبادل البناء بين الضفتين الشمالية والجنوبية للمتوسط.

ملامح تغير السياسات الإيطالية تكمن بوضوح في تبني أولويات أساسها الملف الأمني لاعتبارات عدة منها إنعاش الوسـط الاقتصادي الـذي يلقي بظلاله على اقتصاد كلتا الدولتين، عقب تراجع حجم التبادل التجاري الذي يطلق عليه الباحث الإيطالي ماركو لاكوفينوانتكا "انتكاسة التبادل" ففي سنة 2016، بلغت قيمة التبادل 2.8 مليار يورو، مقابل 15 مليار يورو سنة 2012، إلا أن الاقتصاد ومصالح روما وطرابلس تسبح فى فلك تغيرات النسق الدولي.

ديمغرافية وتراتبية الأهداف
ظهرت أزمة المهاجرين غير القانونين، باعتبار ليبيا دولة عبور منذ نهايات الألفية الثانية. الهجرة، تلك الظاهرة الحضارية التي قامت عليها أمم عظيمة، حاول رأس النظام الليبي السابق القدافي، ونظيره الإيطالي برلسكونى توقيع اتفاق بين إيطاليا وليبيا لتسيير دوريات بحرية مشتركة قصد إيقاف عمليات تهريب البشر، في ديسمبر كانون الأول 2007.

قضايا ليبيا فى الاستراتيجيّات الإيطالية قضايا تفاعلية، محكومة بأهداف معلنة

بتلك الآونة لم تكن أهداف روما أمنية بالدرجة الأولى، بل البعد العام فى السياسة الخارجية الإيطالية كان اقتصاديا تجاريا يتمثل في عملاق يدعى شركة إيني، «الوكالة الوطنية للمحروقات» لاستكشاف واستخراج الغاز والبترول المنتشرة في أكثر من 85 بلدا، يعود تاريخ تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية لسد احتياجات إيطاليا من البترول، ويرى بعض الباحثين الاقتصاديين أن سببب ازدهار ونمو إيني اسـتثماراتُها الناجحة في الاتحاد السوفييتي سابقاً أثر الحرب الباردة ودول أوروبا الشرقية الشيوعية آنذاك، وليبيا الدولة الشرق أوسطية وإيران.

بقاع المتوسط أنابيب الغاز، وعلى سطحه جثث الأفريقيين من المهاجرين غير القانونين، وهنا تكمن أول تحديات تبادل المنافع، لدولتنا ولروما على حد سواء، ويبقى المجتمع الدولي يلعب دور الرصد والمتابعة وإعداد الإحصائيات وتوثيق عمليات الهجرة غير القانونية للتلويح بها عندما تتطلب السياسات الدولية ذلك، دون مساعده حقيقية تـذكر لهؤلاء المتعثرين سيئي الحظ، الـذين انتهى بهم الأمر غرقاً، أو كانوا وجبة لأسماك القرش التي، هي الأخرى، لم توجد هناك صدفة. أما عن الأموال التي صرفت على عملية صوفيا فكانت لتعيد استصلاح الأراضي الزاعية التى عرَّضتها الاستثمارات الأوروبية والصينية والإسرائيلية للرعي والاستهلاك الجائر، وتوفير فرص عمل حقيقة للأفريقيين.

وفي سياق هذا التناول الاقتصادي الثقافي والأمني ودور إيطاليا من تدريب خفر السواحل، وفتح قنوات اتصال مع مليشيات خارجة عن القانون، وهذا جزء من السياسات الإيطالية للتعاطي مع الأزمات، فقد اعتادت روما في كثير من الأحيان، كما حدث فى الصومال، أن تلجأ لهكذا ممارسات، إما بمبرر تحرير الرهائن أو إيقاف تدفق المهاجرين.

تراتيية الأهداف واضحة من قبل روما البلد الأوروبي صاحب الخارطة السياسية التعددية

في الطرف المقابل نلاحظ غياب صانع القرار الليبي مما يترك العلاقة بين الدولتيين علاقة متذبذبة، علاقة ارتجالية لاتحكمها ضوابط القانون الدولي، بل علاقة تقوم على العقل الجمعي القائل (إيطاليا صديقتنا)!!.

تراتيية الأهداف واضحة من قبل روما البلد الأوروبي صاحب الخارطة السياسية التعددية من أقصـى اليمين إلى أقصـى اليسار، بينما «الدولة» المقابلة غارقة فى الفوضي وتوزيع المناصب داخل مؤسساتها وتجـاذبات الموظفين والمبعوثين وضجيج النفوذ والمصالح الشخصية، الأمر الـذي لم يترك مجالا لوضع استراتيجيات وتحديد أولويات ليبيا تجاه دول الجوار. فالحوض الوظيفي هو كل ما يشغل بال صانع السياسة الخارجية في ليبيا.

متى نصل لربط مصالح بلدنا ودولتنا بمصالحنا الخاصـة ومصالح جيل قادم للعدم. بنماء الدولة يمكن الازدهار وتحقيق الرفاهية دون التعرض للمساءلة القانونية ومحاكمات أخلاقية تاريخية، وبالاستمرار بمهرجان الاستنزاف لكل الفرص والموارد والعبث الحالي، سنبقى دولة فاشلة مجزأة، قابلة للانقراض والتلاشي، طالما التخثر الذهنى يهيمن على عروش القادة غير العقلانيين. إنه جنون نيروني.

لقد أحرق نيرون روما لكن، لكونه لم يعلم أنه يعبث، لم يعلم أن روما قد احترقت فعلا.