Atwasat

كتابٌ شائق، سِفرُ الذهن!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 26 ديسمبر 2017, 11:50 صباحا
أحمد الفيتوري

1-

لقد استمتعتُ بذا الكتاب الشائق كسفر للذهن وفيه، كما لو أنه نبيذٌ طازج ومُعتق في اللحظة، عصارةُ العمر، وقماشةُ حياة يتمطقها القارئ ويُمزمزها، كعشريات متسلسلة ومتسللة فائحة بعبق الزمان وعتق المكان. النمنمة مشغل الكاتب من يسبر أغوار النفس، من خلال تجربة عريضة تغوص في لج يمَ عاتٍ لكنه مروض لذا يأتيك في هدوء وسكينة، بتؤدة يمس ذا اللج وهاتِك الأعماق.

سردٌ سيروي ينسج التفاصيل من لوحة بانوراميه، ثم يجعل من فسيفساء اللوحة سيرة مسرودة من حائك للكلام مشغله الثقافة قبل وبعد أن يلتقط أن العمر نهبه، فينهبهُ ويعجنه في المعيش ما نعيشهُ حياً حيوياً وناطقاً، كما لو أنه تمثال موسي ما ألح عليه المثال أنجلو أن ينطق.

بتردد كَسّرٍ مدفون في النص يتدفق النص هادرا مثلما سماء الصحاري ما يموج ليلها بالنجوم، وما يشع في الكتابة، براعة هاوٍ متمرس متمكن من الكتابة لكن مسارهُ حاد عن العيس، كاتب لم يكتب غير ذي السيرة لكن بحنكةٍ ودربة من كتب الكثير، وإن لم يدون أيما شيء لكن كتب مُشافهة وتمرس كقارئ مُجد يكتب ما يقرأ. قوله لست بكاتب قول مُخاتل ففي مسروده أنه انشغل أكثر بالكتابة وهو يسبر مقرُءه، هاجسه اللغة منزلة الوجود حسب هايدجر. في المتن وتقدمته يبان أن ذا الهاجسَ نَسّجُ خلفيةٍ مسكوتٍ عنها في النص، خلفية ذات الكاتب الليبي من أصيل كريت/ تركيا، من لُغتهُ الثانية الإنجليزية، ومراسه في شغله كخبير بارز في علوم الزراعة، من يشغلهُ عن الحياة الكتاب الذي قرين الروح حتى الثمل.

السرد يذوب في الريق، فالسارد يلجم جموح السرد، ويُطلق الزمام متى شاء وارتضى، اللغة كمفردات وجمل تقريرية إنشائية تضج بروح الفن، في رشاقة المركب السكران تمخر عباب مسرودها. ذا النص يثير مسألة الكتابة بين أنها خبرة أو أنها مقدرة في كمون، ويبين ذا النص أن ما يُقال حول وجوب القراءة الدؤوبة للكاتب مسألة صائبة، ومن هذا فالكتابة المسبوكة النابضة بالرشاقة والحيوية في هذا النص تعلتها القراءة الدؤوبة الجادة، حتى أن الكتاب كما لو أنه سفر الذهن "يلضم" الحدث والحكي في عقد مرصع بما قرأ الكاتب، مما يجلي حدث من خفاء ما أو غموض، فيكون للوحة عمق، وللمسرود أبعاد، ما هي تشكيل وسيناريو حياة السارد وسيرته.

2 -

الكتاب مبهر في أن الكاتب لاعب نرد، روائي محنك، مباغت لظن القاريء الآثم، كنت أباغت كقارئ لما تأخذني الظنون بعيدا كلما توغلت في القراءة، فليس ثمة سياق متسلسل بمنطق أرسطي كما توجبه الكتابة الكلاسيكية للمذكرات، المنطق الصوري يُعنَى بالتراتبية أما الذاكرة والتذكر فكما سياق الفن ما يؤخر ويقدم حسبما يقتضي الحال. اللعبة السردية في الكتاب ترتقي بالنص ما يأخذك بمتعة سلسلة حتى لحظة سرد وقائع جافة ذات ملامح حادة محددة، لما تمشي الهوينى للتالي من الكتاب يأخذك الكتاب بقوة في سرد تتداعى به الذاكرة وإن يبدو خارج السياق، ثمة نساج يحيك مراده بليونة، يطرز بدقة شفافة ناعمة الأحداث والوقائع كعجوز تقص القصص والأساطير بمنطق الطير.

تتابع الأحداث ويسرد محمد صدقي ذهني سيرة ذاتية تغترف من الفن أن السياق فريضة ينص عليها النص وليست عُرفا أو قانونا منزلا محكما، ومن هذا أصبح الكتاب شائقا.

3 -

المخطوط خطَ فيما يزيد عن 420 ص A4 طالعته بانسياب، كقارئ يمخر عباب سيرة ذاتية تتلاطم أحداثها وتتداعى أمواجها لكنها مترعة بالسكون وهدوء ليل صحراء صيفي. رغم ذلك فإن الكاتب – كما الكُتاب المتمرسين- يبدأ سيرته بُمفتتح قلق ومتوتر شاغله: ما الكتابة؟، لست بكاتب، ما حياتي؟، ما قيمتها؟، لما أكتب؟ يضج بالأسئلة لكن الإجابة لا تهمه إنما أن يكتب المهم.

الكتاب حامل وجوب التدوين، وأن الكتابة استحقاق فالمرء أي امرئ إنسان ذو تجربة، الإنسان مفرد بصيغة الجمع، قارئ للحياة، ولكل قارئ قراءة تستأهل التدوين.

سيرة محمد صدقي ذهني سيرة الخبير الدولي في الزراعة من تبوأ مناصب في الأمم المتحدة بمنظمة الفاو المختصة بالزراعة، سيرة الليبي القريتلي من حرب الغرب الكبرى الثانية تدك مدينته الصغيرة في الشمال الأفريقي درنة، فالطائرات البريطانية، طائرات الحلفاء تستهدف أعداءها من المحور إيطاليا المحتلة لليبيا بلاد محمد صدقي ذهني، من نتاج عراك الغرب المتقدم قنابل جوية تتساقط فيجني محمد ذهني اليتم حيث يُقتل أبوه وأمه وأخوه وينجو هو وأخت له.

هذا اليتيم من ولد في حرب فُرضت على أهله وقتلتهم، ستفرض عليه النتائج مسارا ومسارب كلها مفاجئة ليتخذ العلم - كما بلاده- نجاة لمن استطاع اليه سبيلا، تفاصيل ذلكم مليئة بالمثابرة قرينها الكتاب روح ذهني وذهنه، تفاصيل ذلكم أخت رغم فارق العمر الضئيل إنما روحها روح أم، تفاصيل ذلكم الدراسة والدرس: بنغازي الثانوية، الإسكندرية الجامعة، سان فرانسيسكو الماجستير، كمبردج الدكتوراه، طرابلس مركز البحوث، روما الفاو، فاليتا التقاعد.

خبير دولي في الزرع من هو من بلاد إمبراطورية الرمل/ الصحراء الكبرى، وندرة الماء وشح المطر، خبير سيمطر على العالم من غزير علمه، اليتيم من أخذ الكتاب بقوة سيكتب سيرة من شجر البرتقال ما زرع بفاليتا وقمة الأرض، زرع - من حصاد شحيح فاتحته قنابل بريطانية/ إيطالية- من علم الزراعة في روما مقر الفاو، بعد دراسة وزواج من بريطانيا.
كتاب درسٌ في الحياة والكتابة، ككل درس تشوبه المحاسن والمثالب لذا هو درس.

4 -

مما جاء في سفر ذهني:
أ- بدأتُ العمل في محطة الفويهات الشرقية المخصصةُ للإنتاج النباتي، وكانت متعددة الأغراض فهي من ناحية مستنبت لبعض النباتات والأشجار النادرة يعود بعضها إلى العهد الإيطالي، وأذكر من بينها شجرة (البونسيانا) وقد بهرتني بأغصانها الممتدة على الجانبين وزهورها الحمراء كاللهب، وقد حاولت بصعوبة إكثارها من بذورها بعد استخراجها من 'قرونها' الطويلة، ولعلي لا اُبالغ إذا قُلْتُ إن منطلق هذه الشجرة الرائعة إلى شوارع بنغازي وحدائقها كان من محطة الفويهات الشرقية!. وقد نشأت مع الوقت علاقة حميمة بينها وبين المدينة لا تخطئها العين وأصبحت من معالمها المميزة، وفي رأيي أنها أصبحت رمزاً لمدينة بنغازي فزهورها الجميلة تضاهي تربة المدينة الحمراء وأغصانها الوارفة توفر الظل 'للذائحين'؛ وكبنغازي، قد تمر عليها فترة من السكون، ولكن ما أن يطل 'الربيع' بإشراقته حتى تنتفض الشجرة وتتفجر فيها حياة جديدة وتنفض عنها ركود الشتاء فتزهر وتبهر!

...

ب- أذكر أني كنت قد كتبت (ثلاثية) مصغرة أول أجزائها بعنوان 'أنا والبحر'، 'The Sea and I' يحكي علاقتي مع البحر التي بدأت بخوف شديد نتيجة حادثة في طفولتي ظلت تطاردني ولكني تغلبت على مخاوفي فيما بعد.

والجزء الثاني من الثلاثية بعنوان 'أنا والصحراء' 'The Desert and I' صوّر لقائي بالصحراء الحقيقية في أول رحلة لي إلى واحة الكفرة. وفي الجزء الثالث 'أنا والجبل' 'The Mountain and I' تحدثت فيه عن تواصلي مع هذا الصرح الطبيعي العظيم: الجبل الأخضر. كنت في كتابتي اُراوح بين الحديث عن هذه المعالم الطبيعية الثلاثة وبين سرد ملامح من حياتي، كنت اُريدها التحاما عضوياً بينها لا وصفاً أو سرداً في خطين متوازنين، ولا أدري مدي نجاحي في ذلك.