Atwasat

مصائر الكتابة محمّد الزنتاني.. مجهول بيانه

نورالدين خليفة النمر الأحد 24 ديسمبر 2017, 11:41 صباحا
نورالدين خليفة النمر

الكاتب مُحمّد الزنتاني تم تكريمه هذا العام 2017 والمُكرّم في حفل تكريمه في المألوف والمتعارف عليه أن تنفرج أساريره بابتسامة فخرخجول وعرِفان بالجميل للمحتفين به، وأن تشتعل عيناه بارتباكة الفرح، المشوب عادة بدمعة امتنان واحدة على الأقل. أمّا أن تسكن في المآقي دمعة حيرى لاتقبض عليها عدسة كاميرا مصوّر الاحتفال، وأن يشمل المُحتفى به المكان والمحيطين به برمقة لامبالاة وتجاهل وكأن الأمر الذي يدور حوله لايعنيه فهو المجهول الذي ننهض له بما نملك من براعة ومعرفة بفنون الكتابة لكشف غامضه.

نعود أدراجنا إلى عام 1975 مررت وكنت قدمت للتو من بنغازي حيث أدرس في جامعتها على محمد الزنتاني بطرابلس في مكتبه بشركة ليبيا للتأمين، الوظيفة التي امتهنها من 1901 حتى 1908 الكاتب التشيكي "فرانتز كافكا" في مدينة براغ، وهو ـ الزنتاني وأنا ـ من قرأنا على كراسي "مكتبة قدري معروف" الباردة بشغف ونهم روايتيه المحاكمة والانمساخ، وبما أننا عمّال في شركة كافكا الأدبية، أخدنا فسحة فيما يشبه راحة بدون إفطار ودار الحديث بين أكواب الشاي على ماقرأت لكافكا في مكتبة الجامعة من جديد الروايات والقصص.

وانا أرمق شعلة الفرح المعاكسة للكافكاوية في عيني الزنتاني إذا بي ألمح يده تخشخش في جيب معطفه الشتوي وتُخرج وريقات مدعوسة مكتوبة بخط اليّد، يمّدها لي بتردد وارتباك. إنها بعد قصتيه "رجال بلاوجوه، و"الكشف" القصّة الثالثة بعنوان "الزيارة" حيث يفاجأ موظف ميناخولي مركون في مكتب مهمل بدخول بنات لم يحلم بهن وفتيان لايعرفهم عليه في مكتبه وفي يد من تقدمهم باقة ورد هكذا وببساطة وبدون مقدّمات لتكريمه أو بالأحرى مواساته بابتهاج مباغت وتعزيته في عمره الذي أنفقه في اللامعنى واللامجدٍ. تقريبا هذا الذي حدث للزنتاني في حفل تكريمه وقد فاجأته في مدينة الفوضى والميليشات طرابلس التي كان اسمها في ستينيات القرن الـ 20 عروس البحر المتوسط مجموعة ثقافية لايعرفها ولم يسمع بأسماء أعضائها في عمره الذي أنفقه في لاجدوى الاهتمامات وهي تُشهر أمام الملأ الليبي اسم منتداها بتكريمه.

أنا الذي كصديقي الزنتاني منحوس أنفقت حياتي مثله في لامعنى اللامعنى الذي اسمه الأدب، ولم نركض هو وأنا واهمين خلف سراب التكريم في الحمادة الليبية. نظرت في صور أعضاء المنتدى الذين تجاوزت أعمارهم في الصور مشارف سن الخمسين، ووقفوا على الخشبة مزدحمين بهدايا التكريم التذكارية وورقة كرتون وصينية منقوش عليها سراب غزالة أو نخلة في قلب صحراء من نحاس. حدّقت ملّياً علّي أتعرّف على أحدهم فما عرفت. أما الرجل الذي لم يسمع باسمه وتشبّث به الزنتاني ليقدمه لجمهور التكريم بكلمة تعريف فبدا لي هو نفسه الرجل المجهول بلباس الشرطي الذي صادفه "جوزف كَ" سائله مستغيثاً به أن يدّله على درب محطة القطار، مُخرِجه من متاهته في أزقة براغ فآجابه: لا أعرف لا أعرف، هازّاً كتفيه بلامبالاة،ضاحكاً بقهقهة مكتومة مجيبه أتسألني أنا الذي لاأعرف حتى نفسي!.

في قصة "أرزاق" يباغتنا ثانية مجهول محمد الزنتاني فنقرأ: "نقرت بأصابعها على الزجاج, وعندما داس (ضغط) على زرّ إنزال الزجاج، بادرته بالقول, وهي تشير بأصابع يدها إلى جهة ما في الشارع, وعلى امتداد الرصيف: انظر, أرأيت ذلك الرجل الذي يعتمر قبعة أوربية، ويطوّق عنقه بشال داكن اللون!. حملق السائق أمامه في حيرة، فأضافت: أعني ذاك الذي يحمل حقيبة جلدية بنيّة في يده اليسرى، و يضع يده الأخرى في جيب معطفه الأيمن!. فزادت حيرة الرجل (السائق)، وتنهّد بعصبية ونفاد صبر، وأراد أن يقول شيئا، فباغتته وهي تشير بيدها: أعني ذاك الذي يسير على حافة الرصيف المحاذية لأعمدة الكهرباء، ألا تراها؟!. وعندما نظر في نفس الاتجاه الذي أشارت إليه, أضافت قائلة: أنت طبعا، لا تعرف من يكون , وتعرف أيضا أن ذلك لا يعنيك، لكنك بالتأكيد تعرف الآن, إنه لم يتمكن من رؤيتي, هه!".

في مساء الكساد الملول بآخر الـ 80 نـينات من القرن الـ20 وكنّا الزنتاني وأنا جيران ونحن نشرب الشاي في بيته بالسياحية المفتوحة شرفاته على البحر الذي كان يومها ينفخ سخوننه التقط من رّف كتبه المجموع القصصي للكاتب الستيني الليبي الراحل "بشير الهاشمي" وطفق يقرأ لي قصة تصف الحياة اليومية لملل شخص مغترب عن محيطه الاجتماعي. في نقطة ما توقّف الزنتاني ضاحكاً برنينه المكتوم من لقطة واصفة لقفز قط من وراء باب فتحه فجأة الشخص وقال لي: عندما تفتح باباً غالباً مايقفز قط كسول نائم وراءه. هذه صورة لعالم ليبي أدركناه عندما كان الناس والقطط يتعايشون معاً في ضوضاء بدون ضجيج "بشير الهاشمي" في قصة أخرى عن ملل حياة محيطٌ بامرأة تمّ تقييدها مبكراً بحبل زواج رجُل ليبي.. يصف مطوّلاً حركة كلبة ممتعضة من قيدها بشجرة زيتون.. في مواء القطة ونباح الكلبة وصراخ القيود كتب المحلّل الأدبي الفرنسي "رولان بارت" أن الفن لايعرف الضوضاء وهو بهذا ليس الحياة (…) فهذه ـ يقصد الحياة ـ لاتعرف إلا اتصالات مشوّشة و "التشويش" وهو الذي لايمكن أن ترى بعده، يستطيع أن يكون في الفن ولكن وجوده فيه يكون عنصراً مقنّناً". محمّد الزنتاني افتعل في قصته "أرزاق" التشويش المقنّن الذي ترى بعده، تشويش فتح الباب الذي يقفز من ورائه قط المجهول.

سنستخدم الوظيفية في القراءة، أي أن يكون للشيء وظيفة في القصة، وهي صنعة يتمّ تعلّمّها من الفرنسي محلّل الأدب رولان بارت. ففي قصة "القرار" لمحمّد الزنتاني عاد المَحكي عن قراره وضميره (هو ) "بجراب مملوء حتى الحافة بأشياء لا أهميّة لها، جراب منبعج، ذي نتوءات حادة في أطرافه، لكنه سلس ومنقاد وذو انحناءات متشابهة عند العنق". الذي سيهمنا وظيفياً في الجراب تشابه الانحناءات وسلاستُها وانقيادُها عند العنق لتنفيذ "القرار"المجهول الذي لايقول لنا عنه الكاتب حتى آخر نقطة في قصته كلمة أو معلومة حتى نعرفه ماهو؟. هذه الطريقة الجنائية تعلّمها الزنتاني من كاتب فرنسي قديم اسمه غوستاف فلوبير قرأنا روايته "التربية العاطفية" التي أعارها لي صديقنا في الصفّ أول ثانوي عام 1971 الصّديق نصر قبل تعرّفي على الزنتاني في صف الثاني ثانوي أدبي عام 1973. في قصته "قلب ساذج" يخبرنا فلوبير في مكان ما، وبدون إلحاح ظاهر منه أو منّا كقراء، أن بنات نائب المُفتّش في بلدة "بون ليفيك"يمتلكن ببغاء، والذي سيكون له شأن عظيما في السرد القادم من القصة من حياة البطل الرئيسي "فيليستيه". فالببغاء هنا رغم وروده تفصيلاً "بناتياً" نافلاً إلا أنه كما يقول لنا رولان بارت تكون له وظيفة بالغة الأهمية كوحدة سرْد في القصة وهي الأهمية التي تكون للجراب المنبعج، ورقبته المنقادة بسلاسة لقرار المَحكي عنه من طرف الزنتاني الذي لايقول لنا عنه في كل القصة ولا معلومة واحدة عمن هو؟

أسهمت اجتهادات الباحث الأدبي محمد مفتاح في كتابه "مجهول البيان" في حلّ مسألة استعارة السياق بتعبير "وينريخ" والنص بتعبيره، أي البحث في الاستعارات الواردة في النص المكوّنة لخطاب ما ـ كـالقصّ ـ إرجاعاً للدور المعرفي والجمالي للنص الأدبي، الذي تحوّل إلى مجرّد هذر لأناس يعيشون في الوهم. وفي الكتابة ومصائرها، يضطرّنا عنت التاريخ وإكراهه إلى أن نكتب في استعارة الشخص. محمد الزنتاني الذي تعوّد أن يُظلم من الآخرين في وطن العبث والهذر، الدكتاتور الحاكم الذي حرمه صيف عام 1973 من حقوقه المدنية وحقه في الدراسة الجامعية، وقانون التجنيد الإلزامي الذي مسح بآدميته الأرض وعاقبه ـ وهو الذي رفض أن يصير ضابطاً عام 1973 ـ بأن يصبح مجنّداً بائساً لسنوات عِجاف، وعقم 1981 ـ 1990،وشركة ليبيا للتأمين التي سجنته في قدر المهنة الكافكاوي من 1974 حتى تقاعده عام 2014 بأن يكون موظّفاً ميناخولياً مهملاً في مكتب معزول يتمنى دخول بنات عليه، لم يحلم بهن وفتيان لايعرفهم في يد أحدهم باقة ورد رخيصة لتكريمه وعزائه، وغيرها من المظالم الليبية، إلا أن المظلمة التي عصفت تقريباً بكتابته حاقت به من أصدقائه عمر الككلي الذي كتب في قصصه قراءتين الثانية نافذة بعنوان "العودة إلى دحرجة الصخرة" وأنا الذي أكتب لأوّل مرة في "مجهول بيانه"، وإن قراءتنا ونقاشنا الشفوي المُتعاود، وكتابتنا فيه دون غيرنا بتقدير وحَدبٍ لم يمنعانا من تتبيث موهبته الكبيرة وسجنها في أربعة قصص أو ثلاثة كتبها منذ أزيد من أربعة عقود هن "رجال بلا وجوه"و " الكشف " و"الثلوج" بينما للزنتاني قصصٌ أخرى شائقة نسجها في هذا العمُر المديد بالكتابة الرائعة وإن بتقتير كـ "المردومة" و "حوار" اللتين لم أكتب عنهما، و "الزيارة" التي جذبتها بالإشارة سالفاّ في حكاية التكريم السوريالية، وقصتين أشعلتُ فيهما نورا بلهب خفيف في سلّة القطة المشاغبة التي خدشت وجه سائق التاكسي وزجاجها في قصة "أرزاق" أو في الجراب، قفص الببغاء يصرخ (آغ آغ) بجوابه، ولكن أيُ قرار؟!. أيها القراء الذين على الفور ستدخلون صفحة محمد الزنتاني الشخصية على الفيس بوك لتقرأوا قصة "القرار" لا تقولوا لي أرجوكم شيئاُ عن الانتحار!