Atwasat

مصائر الكتابة: رمضان سليم.. زهرة بصبّار الخراب

نورالدين خليفة النمر الأحد 17 ديسمبر 2017, 10:14 صباحا
نورالدين خليفة النمر

مُبادلة مصائر الشؤم، موضوعة شاقت الكتابة الروائية، فالسويدي بار لاغركفيست في روايته "بارباس" والروسي ليونيد آندرييف في روايته "يهوذا الأسخريوطي" يستبدلان شؤم الاثنين بالقدر المشؤوم للمسيح الذي سيصير بشارة وخلاص، وكان يمكن أن يتم هذا الاستبدال بيني وبين الطالب وقتها رمضان سليم فأكون ذلك اليوم أنا بديلاً عنه، فيصيبني الشؤم بتوجيهي، بعد سجال مع الدكتاتور لم أعِ عاقبته، للالتحاق بالكلية العسكرية، ضابطاً في الجيش فأرفض، فتترمّد حياتي بخراب مغاير حلّ بصديقي، الناقد المُفكر من صيف عام 1973 إلى اليوم شتاء عام 2017.

أول مرة أراه، عندما وقف في مسرح مدرسة علي النجار بطرابلس ربيع عام 1973 يناقشني في ما أوردته من أفكار أكبر من عقلي بمحاضرتي طالباً في الثاني ثانوي حول "الالتزام في رؤية سارتر الأدبية. كان يقذف الأفكار بالكلمات فلا تبين، فصار غموضه العلامة السرابية التي أوصلتني إلى عمق وجدانه، جنانه الذي ظل يحوطه بالسياجات منذ عام نكبته الأولى 1973 إزاء تخطي الآخرين وإن تخطوه بأن عسفوا به وحطموه ولكنهم لن يهزموه بقول إرنست همنغواي قد يتحطم لكنه لا يُهزم، الإنسان.

بتواضع روحه الرواقية انسرب رفيق محنته الكاتب محمد الزنتاني الذي تقبل الأمر العاسف بالحرمان من الحقوق المدنية ومن بينها استكمال الدراسة الجامعية، موظّفاً في شركة ليبيا للتأمين، بينما أبى رمضان سليم أن يندرج في الوظيفة مستخدماً يائساً كالكاتب فرانز كافكا، فظل يمارس عبر تجارة صديق له بيوعات متفرّقة، وتجارات متذبذبة مقتنصاً فرصة واتته موفداً للتأهل بدراسة السينما في أميركا فمانعه حرمانه من استصدار جواز السفر.

ذاك العام 1978 عدت بعد إنهاء دراستي الجامعية في كلية آداب بنغازي لتوجهني الخدمة المدنية للعمل رقيباً بجهاز المطبوعات في أمانة الإعلام فتمنعّت، لسنة، ثم اندرجت في الوظيفة على مضض فكانت المناسبة الذهبية لأن أشارك رمضان سليم تعطّله، فيومياً التقيه في المركز الثقافي التونسي بالظهرة نقرأ لساعتين ثم نبدأ تمشيّنا متحاورين في شؤون الثقافة والفكر وحيدين في الشوراع التي بدأت تخبو حركتها، وفي المدينة التي بدأت تقفل بعد تطبيق الاشتراكية محلاتها ومتاجرها، وأسواقها وسينماتها والمقاهي التي لم تَعُد مرتاداً للمثقفين والكتاب والصحفيين وأصدقائنا الذين طالتهم على دفعتين عقوبة السجن السياسي، بل فقدت زبائنها بسبب ترويج دعاية مضادة لها بأنها مكان تعطل ولهو وفراغ يعيق المسيرة الثورية.

حتى مغادرتي لليبيا عام 1992 للدراسة العليا في الفلسفة بألمانيا، ورغم علاقتي الفكرية العميقة التي ربطتني به، وقراءتي لكل خط كتبه في مضمار الكتابة النقدية أدبا وسينما، لم يكن باستطاعتي الجزم في تحديد الهوّية الفكرية لصديقي الكاتب رمضان سليم، فكل ما أستطيع تقديمه في هذا الصدّد فرضيات، بل تكهنات.

وكما باح لي أنه ولد بداية خمسينيات القرن الـ20 في كوخ في حيّ عين زارة على أطراف العاصمة طرابلس، وأنه أُرسل صبياً للعيش مع جدته لأمه وخاله والسكن معهما في كوخ صفيح في المجمّع المشهور باسمه الكولونيالي "بورتا عكاّرة" وإعانة خاله الحلاّق في دكانه القابع بحي باب العزيزية قرب ثكنة الجيش، ومن مهام إعانته الذهاب بدراجته إلى قلب المدينة لشراء مجلات لتسلية الزبائن وأغلبهم من جنود الثكنة المنتظرين لدورهم لقص شعرهم وحلاقة وجوههم.

بدأ اهتمامه بالقراءة من المجلات المصورة التي تحوي موضوعات عن أفلام السينما وصور الممثلين وأخبارهم، ويوما ما اصطحبه خاله لمشاهدة فيلم للممثل إسماعيل ياسين في السينما الشعبية "الرشيد" المنغرسة في وسط المدينة بالمحطة الرئيسية للحافلات لتصبح أفلام الكوميدي المصري فيما بعد هوسه، ومن أفلام الكوميديا، تُلقي به الصدفة إلى أفلام الدراما ومنها فيلم "أمير الانتقام" للمخرج المصري الستيني بركات الذي يقوده الى مشاهدة فيلم "الكونت دي مونتو كريستو" عن رواية الكاتب الفرنسي الأكسندر دوماس، وقراءة الرواية ثم بقية رواياته والروايات العالمية، والعربية المُفلمنة كروايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، ومحمد عبد الحليم عبد الله فكانت النقلة التي سيكون لها الأثر البارز في مساره النقدي باختلاط الفرجة السينمائية بالقراءة الأدبية والتوجّه، ليس بطريقة واعية، إلى البحث عن أوجه المقارنة والتفضيل من حيث رسم الشخصيات والمواقف والأحداث.

قرّر الكاتب رمضان سليم، متعمداً وبوعي، عام 1979 الكتابة في الصحافة في مضمار السينما لينأى بنفسه عن مصير إكراهات السلطة الذي حاق بكتاب جيله عامي 1976 و 1978 والذي كان سينضاف إلى الشؤم الذي حلّ به فيما أسلفنا القول فيه. ولتمهيد الطريق للكتابة النقدية التي سيشرعها بالمجهرالنقدي المميز في تفحّص أعمال في القصة والشعر لكتاب ليبيين من الستينين كأحمد إبراهيم الفقيه، وصادق النيهوم، وخليفة حسين مصطفى، وأحمد الحريري، شاعراً وروائياً والسبعيني صديقه محمد الكيش. قبلها صارت السينما مصير الكتابة شبه الوحيد المتبقي له، وفي اتجاه صيرورة المفكر السينمائي، الذي سيكونه انخرط في قراءات معمّقة في مصادر فكرية وأدبية مشتتة أخفاها عن عيون مجايليه الفكريين. فلم يعرّضها لمحك النقاش معهم مقتحما عالم الكتابة مسار العنت الذي كان قدره، في أن يكتب في الصحافة التي تبقت مالن يقرأه الآخرون من جيله الأدبي السبعيني الذين حجبتهم المعتقلات، ومعسكرات التجنيد التي ستحيق به فيما بعد، أو شردتهم المنافي، أو تآكلتهم زوايا التهميش والإهمال.

جُلّ كُتّاب جيلنا السبعيني توجّهوا إلى الإبداع في الشعر كـ :إدريس بن الطيّب، ومحمد الفقيه صالح، والسنوسي حبيب وعلي الرحيبي، وعاشور الطويبي. وفي القصة كـ:عمر أبوالقاسم الككلي، وجمعة أبوكليب، ومحمد الزنتاني، وعدة نصوص مسرحية ورواية واحدة لمنصور أبوشناف. رمضان سليم كتابتة، و أنا شفاهة ثم بعد ذلك كتابة توجّهنا إلى النقدية وإنتاج الأفكار، هو كتب مبكراً ثم أقلع إلى النقد التطبيقي وتحليل الأفلام السينمائية حيث صار علامته الثقافية العربية المميّزة. أما أنا فكتبتُ متأخراً عنه، وإن أعانتني الأكاديمية والاختصاص الفلسفي وهو مالم يُتح له، لأن أتبع مساراَ منهجيا مرّتباً ابتدأته بسارتر وريتشاردز، و مكليش والصوريين، ثم جورج لوكاش، وبشلار، وغولدمان والظاهرتيين ـ الشكلانيين، ثم بارت وجينيت والبنيويين ثم فراي، وتودورف والنقديين الثقافيين وبعدهم لوتمان، وشولتز "السميائيين" العلامتيين.

أسفت طوال مكوثي في ليبيا من 14.يناير.2012 إلى 29.يوليو 2014 ألاَّ أخوض مع الكاتب رمضان سليم في نقاش الأدب، نقداً وتحليلاُ وتبادل رؤى كما كنا نخوض ونبحر في أزمنتنا القديمة، وأحزنني أن مكتبته الثمينة، التي أخفى عنا محتوياتها، وعتّم على كنوزها، بطرائقه البوليسية التي كانت مثار دعابتنا وتشنيعنا عليه نحن أصدقاءه، أن طالها حريق منذ سنوات أتى عليها وهو المصير الذي حاق بكتبي التي ألقت بها أيدي الإتلاف العائلي إلى الضياع الذي هو أحد تجليات مصائر الفشل الأخلاقي لإنسان ليبيا المخفق، وهو مايبدو أمامنا جليا منذ خريف عام 2014 إلى اليوم في واقع المجتمع والسياسة الذي يبتعد يوما بعد يوم في مسارات التزييف والإسفاف عن كشّاف النقد ومبضعه.