Atwasat

تـراث القذافـي!

محمد بن نصر الأحد 19 نوفمبر 2017, 12:15 مساء
محمد بن نصر

تلقى الدكتور محمود أبوصوة أستاذ التاريخ بجامعة طرابلس، على يد أحد الوزراء معاملة أقل ما يقال عنها أنها خشنة، ولا تصدر في العادة عن رجل دولة!. كان الوزير يعبر عن إخلاص - ربما غير واع- لتراث القذافي!

ما هو تراث القذافي الذي يعبر عنه المسؤول الليبي دون وعي؟. لأن تصرف الوزير مع الدكتور أبوصوة ليس حدثاً استثنائياً في المشهد الليبي.

بداية المشكلة، أو جوهرها، أن الوزير الدكتور قاطع الدكتور أبوصوة ولم يدعه يكمل كلامه/مداخلته، بالرغم من أن الأخير آخر من تكلم. وعندما نبه أبوصوة الوزير لضرورة عدم مقاطعته قبل الفراغ من حديثه لأن كلامه غير مكتوب قال له الوزير: "أنت خيرك مندلف"؟. وعندما استغرب أبوصوة الأسلوب سأل الوزير عمن يكون هذا الذي يطالبه بعدم المقاطعة، ويحتج على مصطلح "مندلف"، فقيل له هذا الدكتور أبوصوة أستاذ التاريخ، فما كان من الوزير إلا أن أصدر فرماناً للتنفيذ الفوري نصه: "يمنع هذا الرجل من حضور هذه اللجنة وأية لجنة أخرى"!

نحن إذن أمام ثلاثة مشاهد تَدين بأصلها لتراث القذافي، ولا يمكن أن تجدها في غيره، من عصر الفراعنة إلى يومنا هذا. أول هذه المشاهد هو عدم الحرص على الظهور بمظهر رجل الدولة على مستوى الشكل قبل الموضوع. وثاني هذه المشاهد هو إهانة كفاءات البلاد مهما على شأنها أو تقدمت بها السن (أبوصوة متقاعد). وثالثها تصرف المسؤول في المؤسسة/الوزارة باعتبارها مجاله السيادي (= إقطاعيته التي يتصرف فيها حسبما يروق له)!

أولاً. الشكل قبل الموضوع. رجل الدولة له مظهر ومسلك يجعل العين والأذن لا تخطآنه. على مستوى المسلك لغة رجل الدولة تختلف عن لغة الحمّال والزبّال، لأن كلا من هولاء لا يعبر إلا عن نفسه، أما رجل الدولة فإنه يتحدث باسم شعب أخذ شكل دولة بين الدول المتحضرة. الفروق السالف بيانها محاها سلوك القذافي المشين لأربعين سنة، حتى عاد الناس يتحدثون لغة ملؤها الابتذال، ولا يختلف فيها الحمّال والزبّال مع الوزير، من نوع: "خيرك مندلف"!. طال عهد القذافي حتى محا فكرة الدولة من الواقع الليبي، ومحا صورة رجل الدولة من مخيلة الأجيال التي تربت على صورة "بوسعدية"!

ثانياً. إهانة كفاءات البلاد. لم تسلم كفاءة حاولت الظهور بمظهر رجل الدولة من بذاءة القذافي، بل هناك من مات من أثر الصدمة لما أبداه له القذافي من إهانة مجانية، لأنه قرر الإفراج عن أبرياء أصدر القذافي فرماناً بسجنهم ظلماً. كان المسكين رئيس نيابة يقوم بتطبيق القانون على مساجين رأي ليبيين، لكن القذافي يحكم وفق هواه ولا احترام عنده للقانون، ربما لأن احترام القانون من صفات رجل الدولة!. و إهانة القذافي لأساتذة الجامعة، وطلبتها، والمثقفين، والمبدعين، أشهر من أن تحكى أو تعاد هنا. ولا أعتقد أن هناك رجل دولة في العالم يفتخر بأنه علق معارضيه على أعواد المشانق كالقطط، أو وصف أبناء شعبه بالجرذان غير القذافي!. ليس من الحكمة إذن نسيان أن استغناء القذافي عن الشكليات، هو ما يجعل ليبيا شيئا غير محبوب، لأن الإنجليز يقولون لكي نحب إنجلترا لابد أن تكون إنجلترا شيئاً يُحب!. لقد بذل القذافي ما في وسعه ليجعل من ليبيا شيئا كريها، لكن ما أشهد به هو أن أبوصوة ليس ممن يكرهون ليبيا!. وهذه هي هزيمة القذافي الحقيقية؛ أن هناك من لازال لديه غيرة على هذه البلاد، التي تصرف فيها القذافي كإقطاعية يسكنها أقنان.

ثالثاً. تصرفات عصر الإقطاع. يُحكى أن القذافي سأل عن أحد الشرفاء من معارفه القدامى فقيل له لازال فقيراً كعهدك به، فقال: "اعطوه مؤسسة يعيش منها"!. وبهذا النوع من السلوك العائد للعصر الوسيط تحولت مؤسسات الدولة إلى إقطاعيات، فهذه المؤسسة إقطاعية الحاج فلان، وهذه الشركة إقطاعية المهندس فلتان، وهذه الأكاديمية إقطاعية الأستاذ زيد، وذاك المركز إقطاعية الدكتور عبيد!. و الإقطاعيون لا ولاء لهم غير ولائهم المعلن للقذافي، ولا يخشون غيره، ولا يكرهون أحداً أكثر منه، لأنهم استلموا كل هذه الإقطاعيات وهم منبطحون تحت حذائه!

ويتصرف الإقطاعيون في إقطاعياتهم، كما يتصرف القذافي في ليبيا، للمحاسيب فقط، بغض النظر عن الكفاءة أو الخبرة. مؤسسات الدولة منحت كمكافأة، وتدار كإقطاعية للحاج أو الدكتور، وكغنيمة عند القبيلة أو العصابة التي ينتمي إليها هذا أو ذاك. مؤسسات الدولة الليبية لم تعد تحمل من المؤسسة غير الإسم، فهي تدار بعيداً عن معايير الإدارة العلمية، وبعيداً عن الفعالية التي تؤمن قيام المؤسسة بالغرض الذي أنشئت لأجله. وهذا هو ما جعل الوزير – في وفاء منقطع النظير لتراث القذافي– يأمر بإبعاد أبوصوة، الآن وفي المستقبل، عن كل أشغال لجان الوزارة/الإقطاعية التي يتربع على رأسها. ليس لأبي صوة إقطاعية لا في العهد السابق ولا في الحالي لأنه ليس ممن يمارس الانبطاح، فهذا مما لا يليق لا برجل العلم ولا برجل الدولة.

لكل ما سبق؛ عندي قناعة بأن الوفاء لتراث القذافي يسكن في "لا وعي" المسؤول الليبي، دع عنك الشعب الليبي الآن، لأن الوزير وهو يتعامل مع أبوصوة بالطريقة السالف بيانها يعبر عن لا وعي بما حدث من تطورات، أو ما يجب أن يحدث من تطورات، بين 17 فبراير2011 ويوم الناس هذا!

وما سلف بيانه لا يكتب فقط لأن وزيرا ليبيا تجاوز حدوده بخصوص أستاذ جامعي فقط، وإنما للمحاولات الحثيثة التي تجري لجر الليبيين قسراً لشراء الأمن بالحرية، ليعود حكم العسكر، ولا بأس إن توفر المطلوب أن تذهب التضحيات هباءًـــ فهل نجد أنفسنا يوماً حيث كنا في 31 أغسطس 1969!

أنا لا ألوم رجل الشارع في أن يكون أكبر همه الأمن في الشارع والخبز في بيته، لأن الرجل العادي لا يتوقع منه غير ذلك، لكن ما أحذر منه هو محاولة تبييض النظام السابق بما يجري الآن، لأن هناك من يصور لليبيين أن عودة النظام السابق أو شبيه به كفيل بعودة الأمن المفقود – الذي بالمناسبة لم يكن موجوداُ في عهد القذافي– ثم كفيل بعودة الخبز "العشرة بدينار"! ما يجري الآن هو تراث القذافي الممتد في اللاوعي الليبي؛ تستوي في ذلك تصرفات المسؤول مع رجل الشارع. وما يتبدى في الشارع بشكل يومي هو مجرد تجسيد حي لتراث القذافي، وسير غير منقطع على نهجه الفوضوي ــ فلا يستخفنكم الذين لا يوقنون.