Atwasat

القضيبية.. جاهلية القرن الـ 21

نورالدين خليفة النمر الأحد 29 أكتوبر 2017, 10:29 صباحا
نورالدين خليفة النمر

تقدّمت بعثة الأمم المتحدة للدعم، حسب بوابة الوسط الاثنين 23 أكتوبر 2017 في ذكرى إعلان التحرير بالتهنئة للشعب الليبي، متمنية في التذكار المقبل، أن يكون قد تم إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية تُخرج ليبيا من حالة عدم اليقين التي ألزمتها بها المراحل الانتقالية المتعاقبة، فيعم الأمن والسلام أرجاء البلاد وتتحقق طموحات الشعب الليبي في الاستقرار والتنمية والرخاء. بينما الليبيون الذين تقاسم وجدانهم منذ يوم إعلان التحرير23 أكتوبر2011 تذكار الفرح بالإحباط تناسوا، ولم يحتفلوا كما اعتادوا من 23 أكتوبر 2013 بما أطلقوا عليه رسمياً بـ"يوم تحرير ليبيا بالكامل". فقط قناة 218 الليبية ساهمت في إحياء التذكار بمقابلة تلفزيونية مهمّة مع نائب رئيس المجلس الوطني الانتقالي الذي قاد حرب التحرير لثماني أشهر بمساعدة دولية، حسمت بالقوة الحربية لحلف الناتو العسكري مصير أسوأ نظام دكتاتوري التصقت رمزياته ومعالمه بأُتوقراطية تمازجت فيها البداوة بالشعبوية، والفوضوية بقمع الحريات مُهدراً لأربعة عقود ليبيا فرصاً ومواهب وإمكانات.

قناة 218 التي مافتئت منذ تأسيسها 2015 تمرّر ـ بشكل ما ـ خطاب الإحباط العام من ثورة 17 فبراير الشعبية الليبية أبرز محرّر الأخبار فيها من محتوى اللقاء التلفزيوني المذكور كناية "الزوجات الأربع" علامية الخطاب التي صارت مثار سخرية الكثيرين من حدث إعلان التحرير، مستبعداً المحتوىات الكارثية الأخرى التي احتوتها الكلمة المقتضبة بديلاً عن الخطاب المُعدّ سلفاً متضمنّاً ثوابت بشأن مدنيّة الدولة والتداول السلمي للسلطة ومراعاة حقوق الإنسان بما تمّ فسخه بما ارتجله رئيس المجلس الانتقالي مقايضاً ـ كما ذكر نائبه ـ بصفقة سياسية قوى الإسلام السياسي التي تعهّدت بأنْ تُسلّم المجموعات الإسلاموية أسلحتها مقابل وعودٍ مميتة كـ: منح ترقية عسكرية استثنائية ليس فقط للعسكريين الذين قاتلوا بل للمدنيين "وجُلّهم إسلاميون" الذين شاركوا في معارك القتال ضد النظام الدكتاتوري السابق واعتبارهم ترضية للجماعة الليبية المقاتلة وشبكتها ضمنياً بحكم الترقية عسكريين شبه نظاميين، وإرساء نظام بنكي إسلامي، استدراراً للعامة بالإعفاء من الفوائد المصرفية لأي قرض اجتماعي أو سكني بحدود 10 آلاف دينار ليبي، وترضية المفتي وشبكته بإلغاء كل التعاملات المصرفية الموصوفة بالربا وإطلاق أيديهم في أموال الدولة وأوقاف المسلمين.

جاهلية القرن العشرين مؤلف لمحمّد قطب الذي محور الجاهلية كأخيه سيّد قطب في الأزمة الخلقية في حضارة الغرب مختصّاً تنظير الفرويدية الجنسوي بالتهجّم، متجاهلاً جنسوية الإسلام المأزومة اليوم بفضيحة داعش، رفث مُباضعة، وتسافد فيما ملكت الإيمان. وحتى نساير تأويل محرّر اللقاء التلفزيوني لقناة 218 نترك التفسير الفقهي والشرعي لدواعي "خطاب الزوجات الأربع" ونأخذ بالبُعد السيكولجي الجنسي المتحور حول القضيبية لرمز وحيد القرن في مسرحية يوجين يونسكو بتأويله الذي ساد في دوائر النقد الأدبي الفرنسي آخذين بتحوير كونديرا لاستعارته بسيكولوجيا ونزيحها في مقالنا سياسيا حتى تتلائم مع إزاحة حدث إعلان الاستقلال الليبي الأول عام 1951 م بالثاني في 2011م وهو التحرير الذي نستدعي تأثيره الصارخ ضحكا باستبدال صوت الملك إدريس الشاحب المحشرج بصوت بطل التحرير المستشار مصطفى عبد الجليل الذي تجاوز الفطرة الساذجة برنينه البدوي المسكون بحسّ الدعابة، معلناَ تحرير ليبيا في استقلالها الثاني وبتمريرة أبانت قدراته الرياضية لاعبا سابقا للكرة في ناد مغمور بمدينته (البيضاء)، جانبَ الشر في ذلك النوع من الضحك الذي أبانه كونديرا في روايته منحازاً إلى جانب الصلاح الذي يكمن في كونه يريح إذ تصير معه الأشياء أكثر خفّة مما بدت، فتتركنا نعيش بحرّية أكبر، وتكّف عن اضطهادنا تحت وطأة جدّيتها الصارمة.

التأثير الذي يخلقه يوجين يونسكو في نصّه (وحيد القرن) يكمن حسب تحليل ميلان كونديرا في كونه يضع شخصيات مأخوذة برغبة أن تكون إحداها شبيهة بالأخرى، متبادلة الأدوار في المسرحية. وهو ما يمكننا في مقالنا التماهى مع تأثيره كدعابة ضاحكة، وحسب الطرائق التشخيصية لدراماتولوجيا يونسكو ذاتها نستبدل ذكرى حدث الاستقلال المجيد الذي خلّصنا من الاستعمار، ومابعد الاستعمار الذي صيغ في مشاريع وصاية دولية وإقليمية استهانت بطموحات الليبيين ومقدرتهم في بناء دولة مستقلة وحديثة، بحدث إعلان تحرير التراب الليبي الذي توّج انتصار الليبيين في ثورة 17 فبراير وخلّصهم بتكلفة دموية باهظة من أعتى دكتاتورية طغيانية تجّسدت دما وعنفا وجنونا في تاريخ ليبيا الحديث.

إن حدث التحرير المعجز الذي تمّ مباشرة بعد تخليص العاصمة طرابلس من مخالب الدكتاتور الدموي وهزيمة كتائبه ومرتزقته واحتلال ثكنته بباب العزيزية في 30 أكتوبر 2011، نجح في رأي الكثير من الليبيين، وبالأخصّ ثوار 17 فبراير، في أن يحوز أفضلية أخلاقية تبوئه مكانة رمزية أقوى من حدث الاستقلال في عام 1951 فاعتبر تاريخ تحرير ليبيا من الطاغية بانطلاق الثورة في 17فبراير من العام2011 م وإعلان انتصارها بعد حرب تحرير أدارها المقاتلون الليبييون باستماتة وبدعم من بعض الدول الغربية والخليجية والمنتظم الدولي في 30 أكتوبر من العام نفسه. هو المعّبر عن الولادة الحقّة لدولة ليبيا وليس في الـ24. من ديسمبر 1951 الذي ما زال يعدّ في نظر الكثيرين، ومنهم الإسلاميون، استقلالا صوريا قرّرته الأمم المتحدة تحت هيمنة دول أجنبية هزمت الدولة المستعمرة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية. متناسين أن ولادة دولتهم الليبية الثانية في التاريخ الذي اختاروه عام 2011م بعد 100 سنة من احتلال إيطاليا لبلادهم كانت أيضا بقرار من الأمم المتحدة نفّذته الدول ذاتها التي كانت تتفاوض مع المنظمة الدولية بشأن الاستقلال الأول. وقد عزّز توازي الحجج بالأفضلية الأخلاقية للولادتين تعاطي الليبيين الباهت مع تذكارات التحرير من23 أكتوبر 2013 التي عكست إحباطاتهم بدءاً من أداء المؤتمر الوطني العام الذي اختاروه من خلال عملية انتخابية عام 2012 بدت شفّافة عكست أمام أنظار العالم الديمقراطي جدّيتهم نساءا ورجالا في بناء دولة استقلالهم الثاني ورغبتهم في بناء ديمقراطية منتجة وفعّالة. مطامح وأحلام تراكمت عليها إحباطات وتشاؤمات، بل إفلاس مؤسسات خديجة من لجنة دستور إلى برلمان إلى مجلس رئاسي إلى لجان تفاوض أنست الليبيين حقائقهم حتى تذكار التحرير اليوم 23 أكتوبر 2017 الذي نساه الليبيون عاديون وساسة ومسؤولون في مؤسسات السياسة والحكم التي تتناسل كالهمّ على القلب.

يتصوّر الكثيرون أن التفكير في الكنايات والاستعارات والمجازات هو مضمار اشتغال الأدب ويتناسون أن محاورات الفيلسوف سقراط التي دوّنها وأحكم صياغتها الفلسفية تلميذه أفلاطون انبنت معرفياً وأسلوبياً على استعارات وكنايات تم استلهام بعضها مما قبل السقراطيين ككناية هرقليطس عن جريان الزمن بجريان النهر وللتدليل لاتعوزنا الأمثلة من محاورات أفلاطون ك: مينون باستعارة السمكة الرّعاشة كناية عن تأثير شكوكيّة الجدل السقراطي الذي استلهمه ديكارت في "تأملاته" محملقاً في لهب نار المدفأة التي ألهمت الفيلسوف الفيزيائي غاستون بشلار كتابه الفلسفي الشائق في "بسيكولوجيا النار" ومن أفلاطون لن نعدم الكنايات السياسية ففي محاورته "الجمهورية" يُستعار "الكهف“ كناية رمزية عن الركون إلى عالم الجهل باعتباره كل مانعرف بالشك فيه حقيقة جاهلة يحيلها نور الشمس ظِلالاً من بهوت.