Atwasat

جديّة الدولة وكسل السياسة

نورالدين خليفة النمر الأحد 15 أكتوبر 2017, 09:47 صباحا
نورالدين خليفة النمر

يفتتح الفيلسوف بودريارد فكرة كتابه "المصطنع والاصطناع" بجملة: "إن المصطنَع ليس إطلاقاً هو ما يخفي الواقع ـ بل أن الواقع هو الذي يخفي عدم وجود واقع، وحقيقة المصطنع هو ما يبنيه، أي الطريقة التي يقدّم بها نفسه، فحقيقة المصطنع هو مطلق اللا ـ حقيقة، أي قناعها". لنبسّط بلغة السياسة الواقعية اللغة المناورة للفلسفة ونقتطف شاهداً من مذكرات محمد عثمان الصيد رجل الدولة الليبي بالعهد الاستقلالي 1951 ـ 1969 الذي وُصف أداؤه الحكومي وزيراً ورئيس حكومة رابعاً بالبساطة والتنفيذية، ووصفت شخصيته بالساذجة، بل شُهّر به بإدراج رسالة منه في كتاب "حقيقة إدريس" يصف نفسه بالغُلام أمام هيبة وأبوية مولاه الملك الذي حكم ليبيا حكماً منفرداً بدون مؤسسات سياسية فعالّة توازي سلطانه مدة ثماني عشرة سنة.

فحسب مذكرات الصيد أن المجلس الاستشاري اجتمع طوال شهر ديسمبر عام 1951 موعد إعلان الاستقلال مع الحكومة الليبية المؤقتة لحلحلة المعوّقات أمام تأسيس دولة الاستقلال الناشئة كتوفير اعتمادات الميزانية، وسّك العملة "الجنيه" بتوفير غطاء مالي لها من منطقة الاسترليني، وتدبير الأموال بفتح مفاوضات بالتنسيق مع المندوب الأممي لاتفاقيات عسكرية نظير مساعدات عينية لتغطية العجز المالي للدولة مع بريطانيا وفرنسا وأميركا التي لها قوات عسكرية في ليبيا كواقع من واقعات الحرب العالمية الثانية، وباقتراح من المندوب الأممي توقيع اتفاقيات قبل إعلان الاستقلال لكي تصير التزاماً عملياً وواقعياً بالاستقلال مع المنظمات التابعة للأمم المتحدة: اليونسكو، الصحة العالمية، الفاو، اليونيسيف، والعمل الدولية، إلى جانب إبرام اتفاقية مع المنظمة الأمريكية للمساعدات الدولية "النقطة الرابعة" وحتى ليلة الاستقلال تواصل العمل الدؤوب في طرابلس ثلاثة أيام بلياليها ليسافر المجتمعون بعدها إلى بنغازي ليكونوا على موعدٍ مع الملك إدريس يُعلن من شرفة قصر المنار للأمة الليبية استقلالها المجيد في 24 ديسمبر 1951.

في بنغازي وأمام الملك إدريس الذي شرع في مباشرة اختصاصاته الدستورية يعلن رئيس الحكومة المؤقتة محمود المنتصر استقالتها ليُكلّف بتشكيل أول حكومة وطنية طبقاً لنصوص الدستور المؤسس لدولة الاستقلال. طاقم الحكومة المؤقتة المثبت جُلّه في مناصب الحكومة الدستورية الأولى يعود إلى طرابلس للشروع في بناء هياكل الدولة حيث لم يكن يوجد جيش وطني، ولاقوّة شرطة تحفظ الأمن الذي كانت تحفظه حتى ذلك الحين في طرابلس وبرقة القوة المنتدبة البريطانية وفي فزّان القوة الفرنسية. وفي طرابلس يبتدئ العمل في إعداد القوانين: قانون التعليم، ترسيم اللغة العربية لغةً رسمية، إصدار مراسيم استعجالية بالنشيد الوطني، والعطلات الرسمية، وقوانين أخرى، والاستعجال بالزيارة لإقليم فزّان الذي ظلّ معزولاً في الجنوب الليبي بإظهار رمزية تمثيل الحكومة الاتحادية لأقاليم ليبيا الثلاثة.

تأهيل المجنّدين من أسرى الجيش الإيطالي في معركة العالمين قوة قتالية ليبية فيما سمّي بالجيش السنوسي، وقوة البوليس بمدرسة أبوستة في طرابلس من قبل الدولة المنتدبة بريطانيا كفلا للحكومة الليبية سلاسة الفرصة لتأكيد معالم دولة النظام والقانون المستقلة التي عشنا في ظلالها نحن الجيل الذي وُلد بُعيد الاستقلال حتى انقلاب العسكر على الملكية في 1 سبتمبر 1969.

كواقع جاد أخفى الظهورُ اللافت لواقع الدولة عدم وجود واقع السياسة فيما عبّر عنه عنوان كتاب مؤرخ مسيرة الحركة الوطنية الليبية مفتاح السيّد الشريف بـ "نضالات الأحزاب الوطنية" التي صنعت الاستقلال الحدث البارز في تاريخ ليبيا الحديثة مابعد الاستعمار. بينما ترجع جذور كسل السياسة فيما اسميته في مداخلتي بمؤتمر الحوار الوطني بطرابلس عام 2012 باستبدال العملية السياسية بإدارة سياسية عوّضت تغييب الأحزاب، بحكومة دولة الاستقلال الكفؤة في تدبير الموارد الشحيحة لإشباع الحاجات الأساسية ـ مقابل العمل ـ لتعويض الليبيين عن سنوات الضنك والحرمان.

بحجة هذا الواقع تم استغلال الاضطرابات الشعبية التي اشتعلت بسبب شبهة تزييف الانتخابات البرلمانية عام 1952 لتقيّيد النظام للنشاط السياسي بحلّ الأحزاب الوطنية، ومنع تأطرها في العملية الدستورية والبرلمانية مما شجع الانتخاب على أساس فردي وجهوي وليس على أساس مبادئ سياسية أو اقتصادية تؤطرها أحزاب لخدمة الوطن ككل، فتحول البرلمان الليبي في العهد الملكي إلى برلمان أصحاب المصالح وبالتوازي مع ذلك فشلت الملكية في خلق ومأسسة تنظيمات جديدة لاستيعاب مطالب الفئات الاجتماعية مما نتج عنه بروز مشكلة المشاركة السياسية، فلم يتوفر النظام الملكي على المقدرة لبلورة الشرائح الاجتماعية كمجموعات مؤطرة في سياق سياسة فعّالة، كما لم تكن له الإرادة في تفهّم مشاعر الفئات والقوى المجتمعية الشابّة وتوجيه تطلعاتها للمشاركة السياسية في المشروع الوطني مما تركها رهينة مستلبة للديماغوجيات القومية. فلم تشهد مداولات مجلس النواب طوال الحقبة الملكية نقاشات سياسية نابعة من ضمير القاعة و شدّت اهتمامات الناس خارجها. فقضية التلاعب بمشروع طريق "فزان" مثلاً أثيرت من قبل الصحافة، وافتعلتها الحكومة للتخفف من ضغوطات أصحاب المصالح المحتسبين على القصر والحاشية التي بدأ يظهر على السطح فسادها نظراً لتوافر الريع النفطي ، ومسألة القواعد العسكرية الأجنبية محسومة بانتهاء مدة االمُبرمة. ورئيس الحكومة التي أبرمتها، أعلن في ولايته الثانية بعد اضطرابات عام 1964 نيّته في عدم تجديدها. كما عجزت الملكية أيضاً عن فرض سلطة مركزية تجسدها عاصمة سياسية قارّة ومؤهلة، وبلورة مجموعة سياسية موّحدة، وتمثُّل المشاعر التي زايد بها الخطاب القومي على مسألة انتقاص مبدأ استقلال ليبيا في وجود القواعد العسكرية البريطانية والأميركية، كل هذه المناقص صارت مع الوقت الممهدات لانقلاب العسكر عام 1969 بقيادة صغار ضباط الجيش بهدف وحيد هو إلحاق ليبيا بالمشروع القومي الوحدوي في غسقه الأخير بعد الهزيمة العربية الكاسحة أمام إسرائيل عام 1967.

أصدر النظام الثوري في البداية إعلاناً دستورياً!، وحاول بعث مؤسسات قارّة ودائمة ــ كمجلس قيادة الثورة، والاتحاد الاشتراكي العربي ــ وهو محاكاة للنموذج السياسي لمصر الناصرية في هيكلة السلطة وتوزيع مؤسساتها. غير أن هذه الصيغة لم ترضِ رأس القيادة الذي ما انفكّ يلّح على استبدال العملية السياسية بمنظومة فكرية ساهمت في تلفيقها توّجهات آيديولوجية مثلها الثلاثي: حركة القوميين العرب، والتنظيرات الفضفاضة للإسلامي القومي إبراهيم الغويل والخطاب الليبرالي الشعبوي الذي عبّرت عنه المقالات السفسطائية الساخرة للكاتب الصادق النيهوم، وهو ما جعل من الممارسة السياسية الليبية التي لم يتمّ نضوجها تتجه عام 1973 إلى إعلان نمط هجين من الفوضوية تحت شعار الثورة الشعبية والثقافية الدائمة بسماتها التي تشكّلت مع النظام الثوري برفض السلطة المركزية ومؤسسات الدولة كالأحزاب، واستبدالها بالممارسة السياسية المباشرة بهدف تضييق المسافة بين المجتمع والسلطة لدرجة التوحيد في "السلطة الشعبية" التي تلاشى فيها المجتمع والسلطة معاً، وإن المجتمع العادل هو المجتمع الذي يمارس حقوقه السياسية مباشرة دون تمثيل أو وساطة، أو نيابة عبر مؤتمرات يُرسم لها مسبقاً ما ستقرره ولجان تنفذه بشعار "اللجان في كل مكان" ، وبوسع أي فرد أن يشارك في اجتماعات "المؤتمرات الشعبية الأساسية" بشرط أن يبدي رأيه الموافق لتوجيهات القيادة التاريخية العالمة بكل شئ.

وكما انهارت المؤسسة الملكية بانقلاب سبتمبر عام 1969، بضربة ضباط الجيش الصغار كقصر من الرمال، لاشت الشراذم المسلّحة في الأيام الأولى من التمرد الشعبي بدعم لوجستي حربي من قوّات الناتو فبراير عام2011 المؤتمرات الأساسية و اللجان الشعبية، ومؤتمر الشعب العام، وجيش الوهم والجندرمة العشائرية لأمن الدكتاتور كما يحرق الأطفال لعبة الكرتون. هذه الملاشاة هي مانعيشه منذ عام 2012 حتى اليوم نهاية عام 2017 في دولة الميليشيات بكل أصنافها التي تنبئ بوضوح أن الليبيين لم يتعلموا درس التاريخ، باستبدال السياسة بالديماغوجيا وإبدال الدولة بالفوضى.