Atwasat

ليبيا وممتنعها السهـل

نورالدين خليفة النمر الأحد 01 أكتوبر 2017, 10:44 صباحا
نورالدين خليفة النمر

هيأت فطرة الكتابة الروائي أحمد إبراهيم الفقيه مبكرا الخوض في البحر الذي لاماء فيه، بل ربط أحزمة المقاعد مستعدّاً أن يبرم مع السلطة الدكتاتورية التي ألمت به كاتباً معروفاً في ليبيا عقداً ضمنياً لنمط من السياسة التحتية "Infrapolitics" واحدٌ من ضروب المقاومة التحتية السمات، التي لاتجرؤ على إعلان ماهيتها بوضوح. ولكنّها تقول مفهوماً للحقيقة رغم وضعيته الإبستمولوجية المهتزّة. إلا أن قوّته الظاهرة الفينومينولوجية بادية لعيان العالم الوقائعي الذي هندسه في أربعة عقود الحاكم الأوتوقراطي الدكتاتور وهذا النمط من المواجهة الباردة أسماه جيمس سكوت بـ "المقاومة بالحيلة".

أنا والفقيه وإن كتبنا اليوم مضطرين في السياسة فنحن من عالم الأدب. هو في إبداع القصة وأنا لدرايتي الفلسفية توّجهت متأخراً إلى تحليل الأدبيّة الليبية في نماذج محدودة ومنفردة. وبما أن السياسة في جزء منها مخيّلة فهذا يعيننا أن نفهم في السياسة وإلى حدٍّ ما في شؤون الدولة. فأنا متحّصل في السياسة عدا الفلسفة إجازة الماجستير من ألمانيا وفي الدولة توّليت مثل الفقيه عبر نافذة الثقافة عدا وظيفة رئيس تحرير ـ ضمنياً ـ مقاليد إدارة المطبوعات في الحقبة الدكتاتورية الخطرة من نهاية 1979 إلى نهاية 1983والكاتب الفقيه توّلى بسبب ممانعة الانقلابيين العسكر لصحافة سياسية مهمةَ رئيس تحرير صحيفة سرّبت عبر الثقافة سياسة قضّت مضجع دكتاتور ليبيا السابق، بدليل أنه ألقى بكل كُتّابها مع آخرين في السجن مرة بمناسبة الثورة الثقافية المشؤومة 1973 ومرّة عام 1978 بمناسبة تأهيل حوارييه في اللجان الثورية للدخول بلا مسوّغات للكتابة في عالم الثقافة الليبية، بإشماله عقوبة السجن السياسي 1978 ـ 1988 لما سميّ بمجموعة صحيفة الأسبوع الثقافي فتم حبس الكُتاب والصحفيين من جيلي السبعيني تقريباً كلهم. إلا أنا لأني لم أكتب، رغم أن رئيس التحرير الفقيه أول من نشر لي في الصحيفة الثقافية التي ترأس تحريرها صيف 1972 نصّاً نثرياً بلغة جبران خليل جبران في باب الضؤ الأخضر لمواهب الكتابة. وذات يوم بذات صيف دخلنا عليه في مكتبه أنا ورفيق الصف الأوّل ثانوي الصدّيق بن نصر الباحث المعروف اليوم في مضمار الاستشراقيات والإسلاميات طالبين منه أن يتيح لنا مساجلة الكاتبة ليلي سليمان، ولم نعرف أنها الإسم الذي تخفّى وراءه للكتابة في نقد المجتمع الليبي والدعوة إلى تحرّره الثقافي.

من مقاومات الحيلة التي انتهجها الكاتب الفقيه تواجده مُعلناً عن هوّيته كاتباً ليبياً رغم حجب الدكتاتور وطمسه في محافل الثقافة العربية طوال أزيد من عقدين، وهو ما أكسبه علاقات مع كثير من نُخب الأدب والثقافة أبرزهم الأستاذ والمؤلف الجامعي ووزير الثقافة اللبناني السابق غسان سلامة الذي تقلّد مندوبية الأمم المتحدة في ليبيا المأزومة بالحرب الأهلية منذ 2014. ولتواقت وجود الفقيه مع وجود سلامة في طرابلس فقد استعان به المبعوث الأممي، دون إدراك لحراجة موقف الكاتب الفقيه، في ترتيب لقائين له مع بعض المثقفين الليبيين واحد في بنغازي والثاني في طرابلس، متحاملاً على نفسه تبعة تشخيص حالة مثقف ليبي لم يوجد بالمفهوم المتعارف عليه حديثاً في تاريخ ليبيا مابعد الاستعمار كمهني ثقافة مُحتاج لدرايته في الأزمات، وتقديمه في هذا الظرف اليبابي الليبي، البحر الذي لاماء فيه، حيث لم يعُد للثقافة معنى مُذ هيمنة الدكتاتورية لأربعة عقود واليوم وقد هيمن العنف والسلاح.

من خلال متابعتي بالمقالات السياسية التحليلية في الموقعين الليبيين بوابة الوسط وقناة 218 لأداء المندوبين السابقين اللبناني طارق متري 12 ـ 2013 والإسباني برناردينو ليون 13 ـ 2015 والألماني مارتن كوبلر 2015 ـ 2017 يبدو لي أن المندوب الأممي الجديد غسان سلامة لايخفي مهمة سياسة قذرة كالمهمات التي اقترفها سابقوه خدمةً لمصالح دولية وإقليمية في تصعيب القضية الليبية سياسياً ببلاغة الممتنع السهل عندما تكون السهولة مفتاحاً ينبغي تضييعه في صحراء الرمال الليبية.

وصف الكاتب الفقيه تواصل المندوب الأممي مع من أسماهم النخب الثقافية والفكرية الليبية داخل ليبيا وفي الشتاتين المصري والتونسي مناسبة لتقديم صورة أخرى عن ليبيا التي صُوّرت في الإعلام بلدا لا حضور فيها إلا للميليشيات ولا فعالية إلا للمكونات العشائرية والقبائلية، وأصحاب الحراك السياسي المرتهنين لهذه الميليشيات وهذه القبائل، والعشائر التي عرفتها المجتمعات قبل تأسيس الدولة الحديثة. فالفقيه حسب معرفته بليبيا ودرايته القديمة بها يراها تكنز موارد إنسانية ونخباً فكرية وثقافية شديدة الارتباط بروح العصر ومفرداته الحديثة وقادرة على رسم صورة لمستقبل البلاد إذا أتيحت لها الفرصة لإبداء رأيها.

لم يثر فضولي لقاء سلامة بالليبيين في الشتاتين التونسي الذي يوجد به بعض الملفّقين لما سمّي اعتباطاً بحراك المجتمع المدني، ولا المصري لمتابعتي لمايكتبه الأدباء الليبيون في مصر وما يصرّح به الساسة الذين اصطنعتهم الصُدف من لوك كلام لامضمون له ولافائدة، كذلك لقاء بنغازي التي دمرّتها الحرب الأهلية بين الميليشيات المتنازعة فأبعدتها عن الثقافة بُعد الصين عن ليبيا، تبقى طرابلس التي عشتُ فيها وعملت بها في سابق وظيفتي أستاذاً جامعياً للفلسفة 2012- 2014 فلم أرَ فيها لا السياسة ولا الثقافة وهو ماكشفته قائمة أسماء الحضور ممن دعاهم الفقيه بالنخب الفكرية الذين التقاهم المندوب الأممي في طربلس. فمن الأسماء التي تجاوزت العشرين ولمّت الحابل بالنابل لم أتبين إلا اسما واحداً هو مصرفي أنجز إلى جانب عمله في بنك ليبيا المركزي درجة علمية في الاقتصاد الإسلامي! في آخر سبعينيات القرن الـ 20 واشتهر عندي بمداخلاته السفسطية التي لامضمون فيها فيما سمّي بندوة الفكر الثوري التي أقامها العسكر الانقلابيون بنصيحة من رجل استخبارات الرئيس المصري عبد الناصر فتحي الديب عام 1970 لكشف هشاشة ليبيا الثقافية.

نتيجة إحباطه من هذه التواصلات وغيرها أعلنها المندوب الأممي في مقابلته مع جريدة الحياة عن بوابة الوسط 22 سبتمبر 2017 : حيث رأى في ليبيا تشظياً لمحليات تسودها الخلافات أو المساومات أو التفاهمات الجهوية، وغلبة الطابع المحلي على السياسة والأمن، وهو ما يشي بانعدام الخطاب الوطني، فالهوية الوطنية شبه غائبة. حيث لا أحد يتكلم باسم ليبيا تقريبا، فكل يتحدث باسم بلدته أو قبيلته أو منطقته. ومسعى كل الفرقاء لنيل حصة من عائدات النفط، ومن المؤسسات السياسية، فيصعب العثور بين السياسيين على من يفكر بالوطن الليبي الجامع، فَتوزّعُ الليبيين على شبه قارة صحراوية، يبرز هيمنة البُعد المحلي، الذي يستنفد كل قوى الوسيط الأممي في معالجة الخلافات المحلية منتهياً إلى نسيان مهمته الأساسية، وهي الاشتغال على المسألة الوطنية الليبية الجامعة“.

النباهة اللبنابية التي عازت المثقف البرج عاجي واللامبالي طارق متري، توّفرت لابن بلده الوسيط الأممي الجديد غسان سلامة في أن قارب مع اختلاف المعطيات المشكلة الليبية في إعضالها اللبناني: انعدام الهوّية الوطنية الجامعة الذي تغذيه في لبنان منذ عقد ونصف القوة الإقليمية المُشظّية لكيانات الدول العربية الهشّة المتمثلة في الدولة الإيرانية التي عبر عميلها الشيعي حزب الله اللبناني تمانع بروز مقوّمات الدولة المدنية الديمقراطية الجامعة التي عشنا ملامحها التحضرّية عبر وسائل الثقافة من منتصف ستينيات القرن الـ 20 إلى منتصف سبعينياته. وفي ليبيا قوى عربية ـ إقليمية تريد ليبيا الدولة التي تتوفّر فيها كل مقوّمات الاستقرار والازدهار نموذجاً مخيفاً لفوضى مابعد الدكتاتورية، وقوى دولية أوروبية تتنافس فيما بينها لحسابات جيوسياسية ومصالح اقتصادية على كعكة ليبيا التي بطعم مرارة العلقم في أفواه الليبيين منذ 37 سنة.

السؤال الذي يتبادر للذهن: من الليبيون الذين سيدعوهم المبعوث غسان سلامة بمقترحه لـ "مؤتمر وطني تحت رعاية الأمين العام للأمم المتحدة، يهدف إلى فتح الباب أمام أولئك الذين تم استبعادهم، وأولئك الذين همشوا أنفسهم، وتلك الأطراف التي تحجم عن الانضمام إلى العملية السياسية"؟!. المجموعة الصغيرة التي أعلن عنها تمثلّت في ابن دكتاتور ليبيا السابق ووريثه المُقترَح المجرّم بأحكام الجنائية الدولية وأنصاره من لجانه الثورية الإرهابية. الليبيون الآخرون ربما سهبطون من الكوكب الساحر البعيد في مخيال رواية "سانت أكزوبري" الأمير الصغير!


* البحر لاماء فيه 1965، وأربطوا أحزمة المقاعد 1968 مجموعان قصصيان باكورة الكاتب أحمد إبراهيم الفقيه نشرهما في الحقبة الليبرالية الليبية.