Atwasat

قبول وإقصاء

صالح الحاراتي الأحد 27 أغسطس 2017, 02:36 مساء
صالح الحاراتي

يبدأ الإنسان رحلته في التعرف على ذاته مبكرًا.. فمنذ الطفولة وبمجرد تعرفه على عالم المحسوسات من حوله وتبدأ تساؤلاته عن الآخر بمجرد احتكاكه بغيره؛ يلتفت في البداية إلى خلقته وكيانه الجسدي.. هل هو كامل الأوصاف كما تقول له أمه ومحبوه أم به عيب، ما ذلك الذي يشير إليه الآخرون والذي قد ينغص عليه رضاه وتقبله لكينونته.. من هنا بظني تبدأ رحلة تقبله لنفسه ومن هنا وبالتزامن تبدأ رحلته أيضًا لقبول الآخر.

وأظن أنه من المسلمات والبديهيات التي لا جدال فيها أن الإنسان يولد وهو غير مسؤول عن أي عيوب خلقية قد اكتسبها بالوراثة، بفعل جينات من الأب أو الأم أو من جذورهما.. حين يأتي إلى الدنيا قصيرًا كوالدته أو قصير النظر كوالده أو جاء لون بشرته أسمر أو شديد البياض، وما إلى ذلك من اختلاف وتنوع في الخلقة الذي يحسبه البعض في مجتمعات ما أنه إعاقات أو عيوب خلقية.. التي حتى وإن كانت كذلك يفترض ألا تعيق مسيرته في الحياة أو تكون مجالاً لتندر الآخرين. والواقع يشهد أنه إذا لم يتقبل الإنسان كيانه الذي لا دخل له فيه، لن يصل إلى حالة الرضى والتوازن النفسي.. وذلك يعتمد على كيفية تعامله مع ذلك الواقع واستيعاب وتأثير ذلك عليه إن سلبًا أو إيجابًا.. ويحضرني هنا قول إيليا أبوماضي: كن جميلاً ترى ما في الوجود جميلاً.

هذه مقدمة مختصرة للدخول في مقولة (قبول الآخر) التي تغيب عن واقعنا وتغيب بشكل ملفت عن ثقافتنا السائدة، حتى أننا نجد صعوبة بالغة في تطبيقها عمليًا وإن تم قبولها وترديدها على مستوى الكلام النظري فقط، بينما في الواقع نجد التنابز بالألقاب والتشنيع بصاحب العلة الجسدية بل هو غالبًا ما يكون براحًا خصبًا للتندر والسخرية، فكيف بهكذا حال يستطيع الإنسان تقبل كيانه ومن ثم قبول الآخر المختلف عنه عرقًا ولونًا ومعتقدًا، وهو يعيش في واقع لا يتقبل المختلف حتى وإن كان اختلافا ليس مسؤولا عن صنعه.

احترام الآخر مسألة لا تحتاج إلى سبب فهي مسألة تتعلق في الأصل بوحدة النشأة الإنسانية.. فالآخر يشترك معنا في كونه إنسانًا في الخلقة والتكوين وله عقل مستقل عنا له كامل الحق في استعماله؛ خاصة أن ذلك الآخر لا يؤذي ولا يجبر ويكره أحدًا على شيء.

«أنت تحترم الآخر لأنك تريد نفس الشيء لنفسك دون أن تكون مضطرًا لتفسير أو تبرير شيء».

فقبول الآخر برأيي قول ومصطلح يحمل في طياته منهجية غاية في الأهمية لأنه يظهر مدى الإيمان بقيمة الحرية الفردية والكرامة الإنسانية؛ حيث (لا إكراه) لإنسان لكي يعتقد رأيًا ما بطريقة الجبر والإكراه.

مع ملاحظة أن انتشار مقولة (قبول واحترام الآخر) تحدث ضمن ما تسمح به حدود الثقافة والواقع والفهم الدارج لمثل هذه المقولة والمتعلق بالمرحلة التي يمر بها أي مجتمع في لحظة تطورية محددة.. ويفسر ذلك لي أن مجتمعات الحضارة الحديثة ينسحب فيها قبول الآخر حتى إلى الحيوان والنبات والبيئة.

بينما غياب ذلك القبول يفسر لنا ويجعل مقولة «قبول الآخر» التي تتردد على الألسن في مجتمعنا دون أن نشهد التطبيق العملي لها!

وعند محاولة البحث عن أسباب غياب التطبيق العملي واليقين به وبمراجعة تاريخية نجد أن «قبول الآخر» مصطلح حديث بل أظنه لم يرد ذكره في مراجعنا التاريخية أو لم يتم التركيز عليه في تفاسير «نصوصنا الشرعية» إلا من باب اللطائف كحسن معاملة العبيد والذميين أولئك المواطنين المحسوبين من الدرجة الثانية.. أي أنه لم يكن دارجًا إلا لمامًا حتى في ما يسمى عصر ازدهار «الحضارة الإسلامية» لا أظن أن هناك من أشار إلى استخدامه ورسوخه في العقل الجمعي في سابق تجربتنا الإنسانية التاريخية.. الآخر غالبًا يتم قولبته إما كافر أو زنديق أو مرتد أو فاسق أو ذمي أو عبد أو موالي.. إلخ.

إذن نستطيع القول إنه مصطلح حداثي، وهو حصيلة تجربة إنسانية أخرى، سواء كان خاصًا بتجربة حضارية محددة أم كان حصيلة تفاعلٍ بين عدة حضارات مختلفة، حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم، فهو كغيره من المفاهيم المعاصرة وصلت إلينا عبر تجارب وخبرات لآخرين نتيجة معاناة مرَّت بها شعوب أخرى وانتقلت حصيلة تلك التجارب إلينا.

ولكن حتى لو اقتنعنا بذلك وأن المصطلحٍ ليس أصيلاً في مكونات تراثنا فإن ذلك لا يبرر نبذه أو يعنى تجاهله أو اتخاذ موقفٍ عدائيٍ مسبقٍ منه فقط لكونه مستحدثاً ولا وجود إيجابيًا له في ثقافتنا، أو تطبيقًا عمليًا له عبر تاريخنا بل الأجدر بنا تأصيل المصطلح والتعمق في معانيه ودراسة ما يحدثه من سلم أهلي ووئام مطلوب في أي مجتمع.

إن الكثير منا يعلم أن منهجية إقصاء الآخر وإضفاء شرعية دينية عليه أمر سهل وذلك بإيراد قليل من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والتي بالطبع يمكن أن يحتج بها أي طرف، ليصبح الحق بعد ذلك في جانب والباطل هو ما يحمله الآخر، وما الإرهاب الذي نعاني منه إلا شكلا من أشكال إقصاء الآخر وعدم الاعتراف به، ولكن يتم التعبير عنه بالعنف.

إننا بصراحة لسنا نعاني من أفعال متطرفة وحسب بل نعاني من بيئة متطرفة نعيشها جميعًا، استطاع منهج «إقصاء الآخر» أن يساهم في إنشائها ويغرس جذوره فيها ويغذيها عبر جميع رسائله التي يمتلك حقًا حصريًا باستخدامها منذ عقود من الزمن عبر المنابر الدينية ومناهج تعليمية وإعلامية سدت كل أبواب التسامح.