Atwasat

الفوضى المُضادة

نورالدين خليفة النمر الأحد 13 أغسطس 2017, 10:25 صباحا
نورالدين خليفة النمر

الثورة المضادة ظاهرة سياسية غالباً ما ارتبطت بالثورة كرد الفعل على الفعل، وهي مفهوم صاغه عفوياً الفيلسوف كوندورسيه لاعباً سياسياً في نجاح الثورة الفرنسية، يحيق به المصير السقراطي باختياره تناول السّم كي لايقع في إيدي "اليعاقبة" من يمكن تسميتهم اليوم بالثوريين المضادين. بينما استخدامها كمفهوم سوسيو ـ سياسي فكان مع الماركسية للتعبير عن انتقال السلطة السياسية عبر سياق طبقي من أيدي جماعة سياسية إلى أيدي الجماعة النقيضة لها. فماركس وإنجلز في "الإيديولوجيا الألمانية" وصفا حزب "الجيرونديين" الذي مثّل البورجوازية الصناعية والتجارية الفرنسية، وجاء إلى الحكم عام 1791بناءً على دستور الجمهورية، بأنه تأرجح بين الثورة والثورة المُضادة، بعقده الصفقات مع النظام الملكي. وعلى ضوء هذا التوصيف عمّما اسم "الثورة المضادة" على الحركات السياسية التي انتصرت في فرنسا بدءاً من العام 1794 ممثلة في النوّاب الارتدادين "الترميدوريين"، واستمرت مع نظام انقلاب 18 برومير ممثلاً في مبتعثي الإمبراطورية بمن عُرفوا بـ"البونابارتيين"، لتتعمق الثورة المضادة بعودة حكم آل بوربون في فرنسا 14-1815.

المميّز الفرنسي لهذه الثورة السياسية المضادة هوالاستبدال الذي تمّ في الطبقة البوجوازية، وشمل قسماً كبيراً من قوتها الاجتماعية الممارسة للسلطة مُبدّلاً جماعة سياسية بأخرى. فحلّ المضاربون ومنتفعو الحرب الترميدوريون والبونابارتيون مكان اليعاقبة؛ ثم حلت البرجوازية الكبيرة مالكة الأراضي ـ التي اندمج فيها قسم من النبلاء القدامى والجدد ـ مكان سابقيهم، بعد العام 1815. وفي عام 1871 تحدث النقلة التي يمكن وصفها بالثورة الاجتماعية فتنتقل السلطة من البرجوازية إلى البروليتاريا عبر كومونة باريس التي كانت ثورة اجتماعية، لاسياسية فقط، وكانت هزيمتها من قبل جيش فرساي الظافر الإعلان عن أوّل الثورات الاجتماعية المضادة في التاريخ الحديث.

في عام 1917 انتقلت السلطة السياسية في روسيا بالفعل من أيدي البرجوازية الممثلة في الحكومة الانتقالية إلى أيدي الطبقة العاملة الممثلة في المجالس العمّالية "السوفيتيات“. وفي الفترة من 1924 – 1928 انتقلت السلطة بالكامل من أيدي المجالس العمالية "السوفيتيات" إلى البيروقراطية السياسية التي اعتمدت على قهر واستغلال العمال في تنفيذ برامجها الاقتصادية. قيام البيروقراطية بالدور التاريخي الذي لم تستطع البرجوازية التقليدية في روسيا القيام به أيّ تحقيق التراكم الرأسمالي البدائي، واغتصابها للسلطة من يدّ السوفييتات منذ العام 1924، بالتعاضد مع إرساء الديكتاتورية الستالينية في سنوات 1928-1932في الاتحاد السوفييتي، وهو ماسيطلق عليه ليون تروتسكي إسم الثورة المضادة لثورة مغدورة تنتهي آخر مصائرها بكومونة بيكين أبريل-مايو 1989، التي اكتفت مطالبها بممارسة الجميع رجالاً ونساءً للحريات الديمقراطية، وإعادة الحزب الشيوعي الصيني إلى الديمقراطية الذاتية، وإلغاء الامتيازات المادية، والتضخم والتفاوت الاجتماعي والفساد الصارخ الذي استشرت مظاهره في العقود الأخيرة في الصين.

الجماهير التي انتفضت في "بيكين، وشانغهاي، ويوهان" لم يكن لديها، وغيرها ـ كما بيّن إرنست ماندل ـ ، أي مصلحة في إعادة الرأسمالية. كما لم يكن لديها نية لتلك الإعادة، ولم تطعن في هيمنة دور الحزب الشيوعي في ممارسة السلطة. ورغم ذلك تمّ سحقها من قبل زمرة من العسكر المستبدين وضعوا في أولوياتهم الدفاع عن سلطتهم، ومحاباة أقاربهم، والحفاظ على امتيازاتهم المادية، والتغاضي عن المصالح الاشتراكية المعممّة للشعب الصيني. الثورة المضادة هنا ـ حسب ماندل ـ صوبت ضربة قاسية جدا للاشتراكية في الصين والعالم.

ليون تروتسكي ـ الذي حطّم جواسيس غريمه ستالين جمجمته بمعول عام 1940 في منفاه بالمكسيك ـ يبيّن لنا أن كل الثورات عبر التاريخ كانت متبوعة دائما بثورات مضادة. وهذا التعاقب ـ سمة الحقبة مابعد الثورية ـ هو نتاج الخصائص الجوهرية لآلية المجتمع الطبقي الضاغطة على الجماهير الشعبية التي استثارتها الثورة بالوعود المبالغ فيها، وخيبت تطلّعاتها أن تكون مكاسبها التي انتزعتها بنضالها ملبيّة لآمالها، فتتقهقر إلى حياة الرتابة الملولة التافهة، عكس "الطبقات الراضية" من الفئات التي شاركت في الثورة فإنها تنتقل إلى معسكر النظام وتنضوي تحت قوانينه.

التحليلات الماركسية من تروتسكي حتى بلتهايم توصلنا إلى نتيجة أن: أي حركة سياسية ـ اجتماعية تخرج عن السياق الطبقي وإن نجحت في إزالة مظاهر السلطة الدكتاتورية في المجتمع دون القضاء على بُناها العميقة،لايمكن تسميتها بوجهيها لا بالثورة ولا بالثورة المضادة. فالتقسيم الاجتماعي بين ثورة وثورة مضادة ـ حسب محمّد الحدّاد ـ يفقد جدواه في المجتمعات غير الطبقية "الريعية أو الغنائمية" حال الانتقال إلى مرحلة إدارة التغيير، وتصبح مقولة "الثورة" ذاتها مجرد رأسمال رمزي مطروح في سوق المزايدة السياسية ولعبة اقتسام الغنائم.

هذا الواقع المُعبّر عنه بهدنة مابعد الثورة تتقاسمه ـ حسب الحدّاد الذي يرهن الثورة في المهمة الإصلاحية ـ ثلاثة افتراضات: إما أن تجهض الثورة(!) أو أن تتغيّر الفئات المستفيدة من الغنائم من دون تغيير قواعد الاقتسام أو أن تتغيّر مع الثورة قواعد توزيع الغنائم في المجتمع. والحالة الأخيرة في رأيه هي وحدها الجديرة بتجسيد الثورة كـ"عملية إصلاح "، بينما يجدر أن تصنّف الحالتان الأولى والثانية في خانة الثورة المضادة. التي تسمُها الوقائية ـ بتعبير هربرت ماركوزة ـ لتماهي نفسها بما يسود اليوم مجتمعاتنا من فوضى مضادة، والجامع بين الظاهرتين الخوف من الثورة الذي يجمع بين المصالح لتأمين توزيع موارد المجتمع كغنائم، وحتى بتغيير قواعد توزيعها، فإنه لايحيل إلا إلى طبائع المجتمع الريعي أو الغنائمي الذي ينتج بديلاً عن الثورة، الفوضى الخلاّقة فقط لفوضاها المضادة.