Atwasat

لماذا نكره المليشيات؟. (شرعية المليشيا في تاريخ ليبيا)

عبد الوهاب العالم الأربعاء 09 أغسطس 2017, 11:24 صباحا
عبد الوهاب العالم

هل تساءلت بصدق- لماذا تكره المليشيات؟ ويضايقك وجودها في شوارعنا وتدخلها في مؤسساتنا الحكومية؟ ولم نشتمها على المقاهي والفيسبوك؟. لم نفعل كل ذلك؟ ونحن أصلا مجتمع من المليشيات!.
أجل، نحن الليبيين مجتمع من المليشيات، كِلانا –كاتب هذه الكلمات وقارئَها- لأنها جزء أساسي من تكويننا الاجتماعي- الثقافي. لدرجة أنك لن تجد صفحة واحدة في تاريخنا دون حضور مليشيا بشكل فعال. حقاً، إن الأمر عميق إلى هذا الحد!

يبدأ تاريخنا الملشياوي منذ سنة 2500 ق.م. حين تحولت ليبيا إلى صندوق رمل كبير عاش فيه أسلافنا في جماعات كئيبة اضطرت للاعتماد على القوة حتى تنجو في البيئية الصحراوية القاهرة. فأنتجت عُصبة من الأقوياء لحمايتها وتموينها بالهجوم على الجيران والاستيلاء على الغنائم والاستعراض الدائم للقوة. من هنا بدأت ظاهرة المليشيا في ليبيا، فمنذ زحْف (مريي بم دد) بقبيلة الليبو على مصر عام 1227 ق.م مرورا بغومة المحمودي وصولا إلى ملحمة عمر المختار وانتهاء بأي كتيبة قريبة من بيتك، والمليشيا حاضرة في حياتك الشخصية!.

يبدأ تاريخنا الملشياوي منذ سنة 2500 ق.م. حين تحولت ليبيا إلى صندوق رمل كبير عاش فيه أسلافنا في جماعات كئيبة اضطرت للاعتماد على القوة

قد يكون حديثي صادماً في البداية، ولا بأس. فالأسماء يمكنها تغيير الكثير، إذ كان الليبو مجموعة هزيلة من (المحاربين)، وكان غومة المحمودي يقود عدداً من (الفرسان) إلى بيت الباشا في ساراي طرابلس، وهاجم عمر المختار الطليان من خلال نظام (الأدوار). بيد أن جميع هذه المسميات تحمل عناصر المليشيا رغم الاختلاف السطحي في الزمن والمكان!.

والحق، أن كلمة ميليشيا ليست سلبية الدلالة، إذ تعود للأصل الروماني mīlitia soldiery وتعني مجموعة من المواطنين المسلحين، تمييزاً عن الجنود النظاميين في روما القديمة، وتحيلنا كلمة soldiery لمفهوم التعاضد الاجتماعي الذي يتشكل تلقائيا عند وجود خطر يهدد المجتمع!.

فالميليشيا إذن، حاضرة في المجتمعات الإنسانية القديمة، بل هي شرط ضروري لبقائها منذ آلاف السنين، لكن بعد غلبة المدنية في هذه المجتمعات وتأسيسها الجيش النظامي الحديث. أُلقي بـ (المليشياوي) خارج تاريخ الحضارة!. وصار عبئا على حركة المدنية ذاتها.

من هنا، نتفهم سبب بغضنا للمليشيات، لأننا ورثنا فكرة الجيش النظامي الخاضع لسلطة مدنية، لكن يبقى بغضنا مشلولا، لا ينتج حراكا حقيقيا ضد عنصر المليشيا المتجذر في منظومتنا الفكرية الممتلئة بــ (الرباطات والأدوار والكتائب) فلم نألف نحن الليبيين على طول تاريخنا نظام الجيش بمعناه الكامل المطبق في أنحاء العالم الأكثر تمدنا وإنما بقي في عقولنا مجرد فكرة غير مكتملة... لهذا نردد في المظاهرات مطالبين بالجيش والشرطة ويؤكد السياسيون على نحو كئيب على "تفعيل الأجهزة الأمنية" وينشر البعض على الفيسبوك صورا "للجيش الليبي في عهد الملكية" لائِما معمر أو فبراير على فقدان "الأمن والأمان" وهي أمور تؤكد جهلنا بأنفسنا للمرة الألف!.

إذ أهملت الملكية ذاتها منظومة الجيش، باعتمادها على جهاز الشرطة المكوّن من أبناء القبائل الكبيرة الموالية لها على حساب صغار العساكر من أبناء القبائل الصغيرة (1) هذا يفسر انتهاء الملكية بعد أقل من عقدين من الزمان على يد ضباط جيش صغار السن والمكانة!.

وعندما تولى معمر القذافي زمام الأمور، فكك منظومة الجيش الهزيلة إلى كتائب يحكمها المقربون منه بصلة الدم أو بالولاء (2). أدى ذلك لظهور مليشيات معادية كالجماعة الليبية المقاتلة في بداية التسعينات محاوِلة الإطاحة بنظامه كغيرها من المحاولات الفاشلة، حتى نجحت المحاولة الأخيرة في هدم الجماهيرية بقيام ثورة مسلحة في فبراير 2011.

الذي يجري في شرق ليبيا منذ سنة 2013 هو امتداد للحركة العسكرية السنوسية، أقصد حراك المليشيات المنظمة التي تستمد شرعيتها من سلطة سياسية ودينية

ورغم التناقض الظاهري للنظامين (الملكية والجماهيرية) إلا أنهما استندا في شرعيتهما على أشهر ملشياوي في التاريخ الليبي الحديث، أقصد: عمر المختار.

فمنذ شنقه عام 1931، لم يعد المختار مجرد شخص، بل تحول إلى مبدأ أساسي لثلاث حقب سياسية هامة وجزء من عقليتنا التي نعيش بها اليوم، إذ كان على نحو ما امتدادا للمليشياوي الأقدم (مريي بم دد).

والحق، أنه لم يكن سوى قائد ذكي لمليشيات الحركة السنوسية، خبر أساليب المعارك من قتاله للقوات الفرنسية في تشاد تحت لواء الحركة، وبعد احتلال الطليان لليبيا، تعاظم شأنه بين المحاربين والمتابعين، وتحول من موقعه كتابع إلى قائد شبه مستقل من الحركة التي كانت تمده بالشرعية الدينية والسياسية (3)، وصار شيخ الشهداء بل أسد الصحراء، ليستقر ذلك المسكين الغارق في وحل الرمال والدماء. على عملة العشرة دينار .
إن ما فعلناه بعمر المختار -وبصورة أقل- السويحلي وخربيش وسيف النصر، أقصد، اتخاذهم مُثلا عليا، هو تسليم طوعي لحالة الحرب التي نعيش فيها، فلِم نكره المليشيات إذن؟!.

فالذي يجري في شرق ليبيا منذ سنة 2013 هو امتداد للحركة العسكرية السنوسية، أقصد حراك المليشيات المنظمة التي تستمد شرعيتها من سلطة سياسية ودينية لتنقلب في النهاية على هذه الشرعية بقيادات كاريزماتية مثل -عمر المختار- وتنتهي إلى الفشل (4) وهو مشابه للسيناريو الكئيب لـ (عملية الكرامة)، أما ما يجري في غرب البلاد منذ سنة 2014 هو ذاته سيناريو السويحلي وبلخير وغيرهما من الزعماء القبليين المتنافسين عندما نجحوا في تشكيل هيئة سياسية هزيلة عرفت بـ (الجمهورية الطرابلسية) والتي انقسمت لمليشيات قزمية تسعى طوال الوقت للاستحواذ على مزيد من السلطة، وهو باختصار ما حدث في الفترة بين ظهور حركة (فجر ليبيا) وتشكيل (حكومة الوفاق).

هذا هو تاريخنا -الذي لا يكرر نفسه- وإنما يفرز امتدادات بصور عديدة، يجعلنا نتفاعل معها دون البحث في عوامل نشأتها، فنظل شاخصين للحرب الأهلية بذهول يثير الشفقة!.
وحتى نتخلص من هذا الذهول، و نفهم ما يجري فعلا، ثمة أمران علينا إدراكهما جيداً: أولا الاعتراف بأن المليشيات مكون أصيل في الثقافة الليبية مهمته القضاء على المدنية في جميع صورها... وهذا يفسر إصرار المليشيات على محو مظاهر الجمال والنظام والآثار، ثانيا علينا فهم أن المليشياوي عموما، يؤمن بأنه ليس سببا في الأزمة فهو يستمد شرعية وجوده من عمر المختار والسويحلي شخصياً. لهذا لا يجد وقتا يضيعه في الحديث عن خصائص المدنية!.

أما ما يجري في غرب البلاد منذ سنة 2014 هو ذاته سيناريو السويحلي وبلخير

والمدنية التي أصر على ذكرها باستمرار تدفعك لاعتبار المليشيا على أنها: عضو تالف في جسمنا الاجتماعي، يجب معالجته بحرفية حتى لا يدمر باقي الأعضاء، والنظر بتجرد قاسٍ لكل الجماعات المسلحة على أنها لا تملك أي مخرج من الأزمة التي نعيشها. سواء هي أو قياداتها، فما إن يُخيّل لها النجاح حتى تدمر كل أمل للسلام مثلما حدث مع الجمهورية الطرابلسية... وإذا نجحت الحركة المسلحة وشرعيتها السياسية والدينية تبدأ –بسبب رعونتها- في تحضير مليشيا أشد فتكا منها ولو بعد عقود من الزمان. كما حدث مع الحركة السنوسية.

وتحدث الانقلابات والصراعات بين المليشيات أو بين السلطة والمليشيا، دائماً تحت شرعية واحدة هي المليشيا مدعومة بمعلومات نصف صحيحة لمجاهد كئيب في القرن العشرين!.

وليبيا على هذا الحال، الذي لن يتوقف، فنحن لا نعرف في تاريخنا سوى الحرب والمحاربين، أقصد، أننا لم نقرأ في مدارسنا أو نشاهد على التلفزيون أو حتى نسمع أحد السياسيين اليوم يتكلم عن المثقفين الذين ساهموا في استقلال ليبيا عام 1951، ولا عن الجمعيات ونوادي المثقفين في الأربعينات، بل إن المرء يعجز عن تسمية مفكر ليبي أضاف لبلدنا بعداً آخر غير الحرب!!. وهو أمر مخجل للغاية إذا أردت رأيي، بل أبعد من ذلك، فجهلنا بمناضلينا -المدنيين- بحد ذاته عامل في وجود المليشيات... فلن يشارك الليبي في الحرب –وإن بمجرد التشجيع- إذا عرف جيداً سيِر الأعلام الذين جعلوا من بلاده قابلة للحياة!.

إنني أعلم جيداً أنه لا يمكن للعقلية المليشياوية استيعاب هذا النقاش، فتلك العقلية – بعكس من يكره المليشيات- يحكمها جنون القوة. الأمر الذي يمنعها من تحليل الأمور بهدوء. وإنما أحاور هنا، أولئك الذين يخبئون مساحة من الرشد على هامش الحرب الأهلية، الذين ينقبون في تاريخنا عن أبطال جاهدوا بالفكر والنضال السلمي، ليستبدلوا بهم شرعية المليشيا التي تحكمنا. لأولئك أتحدث، لأنهم يعملون على إعادة إحياء المدنية في ليبيا.


هوامش:
1- دولة ما بعد الاستعمار والتحولات الاجتماعية في ليبيا، عبد اللطيف حميدة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مايو 2012، ص 15
2- نفس المصدر ص 21
3- المجتمع والدولة والاستعمار في ليبيا، علي عبد اللطيف حميدة ، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، بيروت، لبنان 1998، ص 185
4- المجتمع والدولة والاستعمار في ليبيا، علي عبد اللطيف حميدة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، بيروت، لبنان 1998، ص 185