Atwasat

قطعان الكلمات المضيئة 3/8

محمد الدقاق الأربعاء 19 يوليو 2017, 11:39 صباحا
محمد الدقاق

قال لي الفاخري ذات ليلة فيما كان يتحدث عن اللغة:
عليك أن توثق علاقتك باللغة، تتعامل معها كما تتعامل مع صديقك، تحترمها، لا تهينها بأخطاء لا داعي لها. تجعل صلتك بها متصلة، تجدد باستمرار معجمك من كلماتها تضيف ما استجد من مفردات، وتستبعد ما اندثر منها، أدرس علم الدلالات وعلم الأصوات والفروق في اللغة، والأدب المقارن في اللغة، فضلاً عن فقه اللغة وعلمها.

إنك لن تعجز مطلقاً عن التعامل معها إن أحببتها واحترمتها. تأمل مفرداتها وبناء جملها ونغماتها، سوف تعرف كل ذلك إن تأملت القرآن، وقرأت الجيد من الأشعار. عندما تحفظ ما تستطيع من القرآن، وكذلك بعضاً من الشعر الجيد سوف تعرف روح اللغة، وعندئذ سوف تصح اللغة طيعة ودوداً تحبك وتحبها. اقرأ القرآن تأمل مفرداته وتفسيراته حاول أن تعرف لماذا استخدم كلمة معينها ولم يستخدم الكلمة الأخرى التي تطابقها في المعنى.. احفظ ما تستطيع من الشعر الجيد. إن ذلك بالتحديد متا يساعدك على الكتابة الجيدة.

الفاخري.. يستاء كثيراً من الأخطاء اللغوية، التي تصادفه وهو يقرا نصاً ما

قلي لي مرة:
خذ مثلاً قوله تعالى: (والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس).. تأمل كلمتي (عسعس) و(تنفس) إنك لن تجد أي بديل أجود منهما على الإطلاق.
تأمل أيضاً قوله تعالى: (والليل إذا يسر)، كلمة يسري تعني الرحيل في الليل، مثلما يقول “المتنبي”:
وأسري في ظلام الليل وحدي كأني منه في قمر منير
إنك لا تستطيع استبدال كلمة (يسري) بأية كلمة أخرى.
إن هذا يعني الجانب الإيحائي في اللغة، بدلاً من الجانب الدلالي، الجانب الدلالي يقول لك:
– اشتعل اللهب
والجانب الإيحائي يقول:
– واشتعل الرأس شيباً.

بهذه السلاسة يشرح لك اللغة، فنصل إليك ببساطة، وهذا لا يستطيعه إلا متمكن عاشق للغة وآدابها.
أقول لكم إن “الفاخري” يحفظ عن ظهر قلب أكثر من نصف القرآن، كما يحفظ دواوين كاملة للعديد من الشعراء المتميزين.. إنه في الشعر راوية حقيقي.
سنة 1967 بعث “صادق النيهوم” برسالة من (هلسنكي) إلى المرحوم “علي الفزاني”، قال في فقرة من فقراتها: (.. الكتاب الذي أتمنى أن تبعثه لي اسمه (أبيات ريفية) وهو ديوان للشاعر “عبدالباسط الصوفي”، ولكني لا أعتقد أنك ستجد منه نسخه في سوقنا الكئيب، فاتصل بـخليفة الفاخري وتسول منه نسخة..).
في تلك الفترة كان “خليفة” يقرأ بعضاً من قصائد ذلك الديوان، خصوصاً قصيدة (مكادي) التي كان يحفظها على الرغم من طولها عن ظهر قلب.
“الفاخري”.. يستاء كثيراً من الأخطاء اللغوية، التي تصادفه وهو يقرا نصاً ما، أما إذا كان الخطأ قد وقع في نصٍ له، فإن ذلك يزعجه بدرة لا توصف.. ولعلني أبوح لكم بشيء قد لا تعرفونه، وهو أن أعمال “الفاخري” لم تحظ بنصيبها من الانتشار خارج البلاد بسببه هو، لأنه ببساطة لا يحب أن ينشر له نص لا يستطيع مراجعته قبل النشر.
قرأت، مرة أخرى قصة (النوارس) التي أعيد نشرها في مجلة (الفصول الأربعة)، وقد قام صديقنا الدكتور “زيـاد علي”، نظراً لمعرفته بحساسية “الفاخري” تجاه الأخطاء المطبعية بمراجعة النص شخصياً قبل طباعته.. وعندما لم أجد بالنص أي خطأ، قلت للفاخري:
– أ رأيت، أصدقاؤك حريصون على نصوصك، ليس ثمة خطأ واحد في قصتك التي نشرت بالفصول.

قال لي على الفور:
– بها خطأ واحد.. لقد كتبوا (اختيار فصيلة الدم) بدلاً من (اختبار فصيلة الدم).
وقد صدق، والخطأ كما لاحظتم نقطة واحدة.. ومثلما هو بالغ التدقيق في تصحيح النصوص، فهو أيضاً بالغ التركيز في قراءته.. ولعل الذين يعرفون “الفاخري” يتفقون معي في كونه أحد القلائل الذين يجيدون اللغة العربية ويعشقونها ويتعاملون معها تماماً مثلما يتعامل الحبيب مع حبيبته.. إنه يمتلك قدرة عجيبة على الحفظ، خصوصاً حفظ النصوص الجيدة.
عندما كلف بتصحيح مجلة (الثقافة العربية)، سأله أحد الأصدقاء عن عمله تلك الأيام، بعد أن ترك العمل في المجال الوظيفي، أجابه:
" أعيش، الآن، على أخطاء الآخرين ".

إلمامه بالشعر العربي القديم، خصوصاً أشعار المتنبي الذي يعد شاعره المفضل، ساعده كثيراً في اكتساب روح اللغة العربية وجمالها

الثَّـقـافـة
في أوائل الثمانينات زرت “الفاخري” في (الدنمارك) كان حينها مستشاراً ثقافياً بسفارتنا هناك، في ذلك الحين كان منشغلاً بإعداد الكتاب السنوي، وهو مشروع ابتدعه ونفذه لمدة خمسة أعوام متتالية، والكتاب يقع في خمسة مجلدات، يضم كل ما في دول اسكندنافيا من نشاطات ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية وفنية، وهو موجود الآن بوزارة الخارجية ، وكذلك بالمعهد الدبلوماسي بطرابلس.

لقد ذهلت من حجم المعلومات التي جمعها واستوعبها، ومن الكتاب يتضح أنه كان يتابع كل كبيرة وصغيرة، وقد توج فترة عمله هناك بالأمسية الشعرية التي أقامها للبياتي، حيث قدمه وترجمت الأشعار التي ألقاها إلى اللغة السويدية والدنمركية، وظلت حدثاً ثقافياً متميزاً تناولته الصحف الدنمركية بأسرها.

إجادة الفاخري للغة الإنجليزية، التي باع من أجلها سيارته ودرسها بمدينة بورنموث في بريطانيا سنة 1970، هي التي مكنته من تنفيذ هذا العمل. مكنته أيضاً من الاطلاع على الأدب الإنجليزي وأيضاً الأمريكي، خصوصاً أعمال: شتاينبك، أرسكين كمالدويل، ووليم فوكنر وريتشارد رايت، وهمنجواي، الذي تأثر به كثيراً.

إلمامه بالشعر العربي القديم، خصوصاً أشعار المتنبي الذي يعد شاعره المفضل، ساعده كثيراً في اكتساب روح اللغة العربية وجمالها، والفاخري يعد موسوعة للشعراء العرب، فيندر ألا يعطيك نبذة وافية عن شاعر عربي، شريطة أن يكون جيداً، وغالباً ما تجده يحفظ له عن ظهر قلب قصيدة أو أكثر.

ولع الفاخري بالثقافة والأدب اتضح عنده منذ أن كان شاباً، منذ سبعة وثلاثين عاماً عندما كان يعد ويحرر ويخط صحيفة نادي التحدي الحائطية المتنبي والرأي، التي ظلت واحدة من أروع سبل نشر الثقافة الراقية آنذاك، وفي أواخر الستينيات قدم العديد من المحاضرات الشائقة بنادي التحدي، وخلال بعض الأمسيات والأصبوحات الشعرية قدم بجامعتي قاريونس والعرب الطبية مختارات من الشعر الجيد، وقد نالت إعجاب الحاضرين بسبب حسن إلقائه وحفظه لتلك المختارات. إن ثقافة الفاخري، هي في الواقع دعائمه الأساسية في تميز أدبه، الذي سخر له أدواتٍ جمالية صاغ بها تجربته بصدق هائل، وأسلوب فريد فعانقت قلوبنا.