Atwasat

الأراضي المنخفضة: الفلوس..

سعاد سالم الثلاثاء 18 يوليو 2017, 11:52 صباحا
سعاد سالم

لا أذكر من قال أن النقود تعيد صياغة الابتسامة. وهو لم يبالغ على أي حال.
ظل رئيس التحرير يقول أن الفقر سيحرر المجتمع من عاداته وتقاليده، يقول ذلك بثقة وببعض البهجة فهو لم يعد آنذاك من ضمن الفقراء، وغالبا يضع المانيا فوق حديثه كما يضع جيمي (الطباخ العالمي) الموتزريلا فوق طبق المكرونة الطلياني - تحصيل حاصل- فالمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، تنط في أحاديث الكثيرين حينما يرغبون في توظيف الهراء الذي يسوقون له، أذكر في كليتي وفي الفصل الصيفي تحديدا حيث لا يكثر فقط الناموس اللاسع ولكن أيضا يكثر الناموس الديني (الناموس= الشريعة أو القانون) الذي يحفزه على السعي سيقان البنات وزنودهن وطبعا شعرهن، واحد من أولئك ولأنني نشطة اختارني لنتناقش حول تغليف الحلوى، تعرفون ما أقصد، وساق في حديثه السماوي ألمانيا وأسباب ظهور التنورة القصيرة وأن الحرب التي رمت التريس للموت في المعارك أو كأسرى حفز الكيد المتأصل فيهن فاخترعن التنانير القصيرة لجذب الذباب إلى الحلوى.. أعني لإغواء ماتبقى من الذكور.. وأنا لن أسرد هنا لا تاريخ نساء ألمانيا ولا سريب الموضة والميني والميكرو جيب.

في الحقيقة وأنا هنا أمكنني رؤية المال في شكل جديد.. ليس كونه شيئا مقبول قبولا عاما كما يعرّفه الاقتصاديون للدفع مقابل السلع والخدمات ولكني رأيته أداة تغيير في البناء الاجتماعي.
كان أول درس هنا عن الوقت، لا أحد قال الوقت كالسيف ربما لأنه غاب منذ أجيال السيف من الذاكرة لكنهم يقولون الوقت يساوي المال.. لذا نحت في هذه المجتمعات التي لاتقول عن المال وسخ يدين في زهد غير متوافر على الأرضية الاجتماعية ولكن تعامله كنعمة، أوجدت مع الوقت واقعا ونظاما اجتماعيا جديدا..
المواعيد ..

لا أحد هنا يسمح لك باقتحام حياته من دون اتفاق سابق

عندما تستلمون البريد طالعوا وتقصدنا كأميين في اللغة إن كان ثمة تاريخ وساعة، هذا أهم مافي الرسائل بما فيها الفواتير، هكذا حدثتنا المعلمة في ألف باء الهولندية.. وخصوصا مواعيد الأطباء لأن التأخير أو عدم الحضور ستدفع ثمنه فعليا.. بالتأكيد هذا لايعني (اوقف نطيح) فلظروف عدة لا يتمكن بعض الناس من الذهاب للمواعيد لذا دائما هناك سطر يقول إن تعذر الحضور عليك الاتصال، مع العيادة أو البلدية أو أي مصلحة، يمكننا أيضا فيما لو أجدنا الكتابة أن نرسل إيميلا بشأن إلغاء المواعيد مع ذكر الأسباب ليتم بشكل فوري استبداله.

ولكن هل هذا فقط مؤثر في المعاملات التي لها علاقة بالتزامات دفع مباشرة، الضرائب والتأمين الصحي وغيرها تجنبا للعقوبات الجزائية في حالات أكثر أهمية أو تعقيدا؟. بالتأكيد لا.. لقد انسحب التفصيل على وجه الحياة بصفة أعم.

انظروا إلى هذا التعريف الجميل للنقود، والذي أحببته لما فيه من صورة بدت فيها النقود كمرشد أو خارطة طريق (النقود ظاهرة اجتماعية، كونها جزءاً لا يتجزأ من النشاط الاقتصادي والتجاري، الذي هو بطبيعته نشاط اجتماعي، وهي لا تتمتع بصفتها هذه إلا بقبول أفراد المجتمع لها) كنت من الجيل الذي ينزعج من الزيارات الصباحية لصديقات أمي ومبادلتهن الزيارات، بل ننتقد الأمر كلنا كبنات لتلك الأمهات، أمي بعد إنجاب خمسة أولاد أنا واحدة منهم انخرطت في تحديد النسل، أذكر جيدا حملة التوعية بالصحة الإنجابية التي سادت في فترة ما، أمي عادت للدراسة ونحن مراهقون وكنا ننكب كل مساء على واجباتنا ومعنا أمي التي حرمها مجتمعها الصغير في سوق الجمعة وقتها من مواصلة تعليمها بعدما ترك جدي المدينة القديمة خلفه، رويدا بدأت الزيارات الاجتماعية تجري بناءا على الاتصالات المسبقة لتحديد موعد الزيارة (بما فيها إرسال أحد الصغار) وإن كان اقتصر إلى حد كبير على مزاج وساعة يحددها الضيف المرتقب لأن أمي تجد حرجا في تغيير الموعد وإن لا يناسبها، ولكن كل هذا تغيير اجتماعي بديع، سبقتنا فيه أجيال لتمرير الكثير من القيم الاجتماعية الجديدة.. ولكن أسأل نفسي الآن، أليس المال الذي ألقاه النفط على الليبيين هو ما أتاح للناس التعلم ثم المعرفة والوعي فالتغيير!!.

لا أحد هنا يسمح لك باقتحام حياته من دون اتفاق سابق، بل ثمة روتين كان جزءا لدرس آخر في صف الهولندي وهو امتلاك أجندة.. فخارطة المواعيد التي ستملكها تلقائيا ما إن تقيم هنا خلقتها في الحقيقة دورة النقود، والتي بدورها أنتجت نظاما حياتيا بقيم تناسب هذا العالم السوق (ليس بمعناه السلبي)، ما أعطى الحياة معنى مختلفا إلى حد كبير، فساعات العمل الطويلة تجعل المتبقي من اليوم ومن عطلة نهاية الأسبوع مواقيتَ مقدسة، وببساطة، أوقات الفراغ المحدودة وأجرة الساعة هي التي كسرت العادات القديمة بواقعية ومرونة، فحيثما الوقت مخزن للقيمة، الفلوس (يديروا) بلاد في البحر.. وهذا مالا يفعله الفقر ولا التدين.