Atwasat

صيرورة الحياة وحركة التاريخ

صفوان المسوري الأحد 16 يوليو 2017, 11:11 صباحا
صفوان المسوري

لم تغب الصراعات بين الفرق الإسلامية أبدا على مر التاريخ وفي كل الفترات السابقة، غير أن الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية التي تسود في تلك الفترات، تسهم في نسبية سطوع هذه الخلافات و خفوتها.

وعند النظر إلى بدايات هذه الصراعات سنلحظ أنها كانت على مستوى أكثر تعقيدا من الآن، فقد كانت تلك الصراعات على مستوى "الاعتقاد" نفسه أو "العقيدة" في حد ذاتها. كانت أعنف الصراعات وارتداداتها تلك التي أثيرت حول الله، ومكان وجوده، وقدرته، وحول الأسماء والصفات والاستواء وما شابه ذلك.

وهنا سأسوق مثالا واحدا، للتدليل على مدى اختلاف الفهوم بين هذه الفرق وعمق الاختلاف بينها. فبينما تقول طائفة "أن الله في السماء"، تقول أخرى "أن الله في كل مكان ولا يمكن حيازته"، وقد نتج عن هذا التباين الكبير تفسيق وتبديع وتكفير متبادل، وكان للسلطة-الفقيه والخليفة- التي عادة ما تنتصر لرأي ما، نصيب كبير في استعباد وإذلال المخالفين وإلغائهم فكريا بشكل نهائي في بعض الحوادث.

مع تقادم الزمن خفت هذا النوع من الصراع العقدي، وحل محله صراع آخر، يأخذ شكلا "فقهيا" وهو ما نراه الآن ونتحسس بعضا من أشكاله ودرجاته.

ولعلي أقول أن سبب خفوت النوع الأول من الصراعات هو تسرب قناعة مفادها أنه ليس هناك طائل يرجى من إطالة عمر هذا الخلاف لمدد أكبر، و لربما أن تلك المجتمعات قد أدركت أنه ليس ثمة تأثير على واقعها اليومي المعاش، من وراء كون الله في السماء أو في كل مكان.

نتيجة لهذه القناعة انتقل الصراع إلى مستوى ثان، وأقصد هنا الفقه بمفهومه الواسع، والذي شكل تأثيرا كبيرا على حياة تلك المجتمعات التي عاشت في فترة ما يسمى بالخلافة.

إذ إن الاقتراب الفكري-الفقهي- من الخليفة ومن فقهاء السلطان هو الذي يشكل الوضع السياسي والاجتماعي للفرد، فالمكانة والوجاهة والسلطة والغنى والفقر والأمن والخوف كلها مرتبطة بذلك تحديدا.

لازالت إلى الآن هذه الخلافات الفقهية سارية المفعول، ولها أدواتها الخاصة من أنظمة سياسية وشيوخ وقنوات ورجال أعمال إلخ، وبالرغم من أنها أخذت أنساقا أخرى بفعل التغييرات العالمية التي حدثت و لازالت تحدث إلا أن ذلك لم يطفيء لهيبها بعد، ولازالت تقوم بحركة استقطاب حادة للأفراد داخل المجتمع، مسببة حالة خطرة من التشظي والانقسام داخل هذه المجتمعات.

ومع ذلك أرى أن الانتقال من المستوى العقدي إلى المستوى الفقهي، سيعقبه الانتقال إلى مستوى آخر، قد لا أنجح في رسم ملامحه أو محدداته بدقة، غير أني على ثقة بأنه سيكون أكثر لطفا وأقل عنفا من كل ما سبقه، وسيكون دون شك انتقالا أو إزاحة في اتجاه فكرة المدنية أو العلمانية.

إن صيرورة الحياة وحركة التاريخ تنبيء بأن الثبات من المحال ، وأن الثابت الوحيد هو التغير الدائم، فإذا أضفنا إلى ذلك التغييرات العولمية الأخيرة والانفجارات المعرفية الكبرى خاصة في عالم التقنية والاتصالات، نصل إلى قناعة راسخة مفادها أن ما نعيشه اليوم أكبر بكثير من أن تتصدى له منظومات فكرية قديمة جدا تحرم حتى على نفسها التجديد والتحديث، و إني أقول بشيء من الثقة أن تمظهرات العولمة الآن و تأثيراتها غير قابلة للمقاومة، خصوصا أن هذه الفرق والجماعات تعتاش على آمال المسير للخلف في طلبها للتقدم في خلل معرفي صارخ، وجهل على امتداد الأفق بنواميس الطبيعة.

أقول هذا و في ذهني تلك المجاميع البشرية القابعة في شرق ليبيا مكانا، و في الحجاز زمانا ووجدانا، والتي تسعى لفرض نسق قديم من الحياة والفكر على المجتمع هناك، في محاولة نتيجتها الحتمية هي الفشل، كما هو حال من سبقهم بالتطرف والعنف.

كلي أمل أن تدرك هذه المجاميع أن الاستقواء بسجن ومشير وبعض القطع العسكرية وعشرات من الدراويش، لن يجدي نفعا أمام هذه التحولات الكبرى وأمام شعب يثبت مرارا أنه كبير وعظيم في اللحظات الفارقة، وإني لأتمنى لهم اندماجا حقيقيا في المجتمع وقبول اختلافاته وتنوعاته والتعايش معها، فهذا هو السبيل الوحيد الذي يضمن تواجدهم مستقبلا، فليس لهم ملجأ من هبة المجتمع إلا بالانصهار فيه.