Atwasat

مجرد ذكريات: سلالة بن حليم!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 11 يوليو 2017, 12:37 مساء
أحمد الفيتوري

(الحلقة الاولي)
للمرة الثالثة أطالع كتاب: "صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي- مذكرات رئيس وزراء ليبيا الأسبق مصطفي أحمد بن حليم"، الصادر في طبعة يتيمة عام 1992، حين صدوره لم يكن عبثا بل صدر ليثير الكثير من ردود الأفعال، ليس لأنهُ المذكرات الأولى لسياسي ليبي فحسب لكن أيضا التوقيت الذي صدر فيه، جاء ومسألة من مسائل ليبيا البنيوية: حدود البلاد أو الجيوسياسية الليبية أمر موضوع على الطاولة، كانت قضية ما عرف بمسألة "أوزو" مثارة بين ليبيا وتشاد في المحاكم الدولية، بعد أن سكتت المدافع وتحدثت السياسة ومن ثم القانون.

هكذا يبان أن الكتاب ووقت صدوره وصاحب الكتاب مسألة من الوزن الثقيل، وبذا أصبح الكتاب المسألة، ما يثير الأسئلة بحجم ما يضع من إجابات، الكتاب الإشكال كما صاحبه لهذا هو كتاب في المدونة الليبية بقدر من الأهمية أن يُقرأ، وكما سأبين هذه الأهمية في قراءة مستفيضة أضع قبلا ملاحظات:

1-الكتاب في ذاته كما كان فتحا في مجاله فإنه أنجب سلالة من المذكرات التي بعضها جاء كردود عليه كما "مذكرات عثمان الصيد" وكتاب "على الديب".

2- جعل الكتاب من "بن حليم" كما مؤلف لسلسلة أو سلالة، ومُنذها والتاريخ السياسي الليبي على الطاولة.

3- وضع خطاطة لنشأة الدولة الليبية الحديثة كسابقة لما بعد الحرب العالمية الثانية الحدث الأبرز في التاريخ، والدور الدولي في تلكم النشأة ودور مؤسسة دولية "الأمم المتحدة" في ذلكم لأول مرة في تاريخ الإنسانية.

4- بدا أن الدور السياسي الذي لعبه كـ "بن حليم" يتضح بأنه ليس مسألة تاريخية كما فعلٍ ماض ناقص، بل إنه فعل مضارع تُجسده معضلات "الآن وهنا" وتفتح آفاقه، فالكتاب ماضي الراهن والأبرز في سلالته، وممكن تأمل المستقبل في خطوط كفه.

5- الكتاب سفر ضخم الحجم من حوالي 900 صفحة من الصنف الكبير، ومدونة لجمع من الوثائق الدولية التي تبين أن المسألة الليبية يمكن أن تكون درسا أكاديميا فريدا من نوعه في تأسيس الدول في العصر الحديث.

لكن السؤال الذي يثيره الخاطر ما المهم الأبرز الذي يجعل من كتاب في التاريخ السياسي ومذكرات لسياسي سفر اللحظة الراهنة؟

بالنسبة لي كقارئ هذا السؤال هو أس القراءة ودافع المطالعة فالكتاب لفت نظري أن التاريخ لم يكتب للمعرفة المحض بالماضي بل لصيرورة هذا الماضي فينا، لكن الأهم أن ثمة حقائق هي ثوابت التجربة الإنسانية في كل زمـكان كما حقائق الجسد، وأن التاريخ حين يكون الجغرافيا ومحكوم بها فما حدث سيحدث، ولعلكم لاحظتم معي أن ما أثاره الكتاب من زوبعة وغبار ساعة صدوره بسبب المسألة الحدودية، وأن الجيوسياسية قلب الدولة ومثار الصراعات هذا من مخرجات الصدور، وما أثاره في المتن حول قضية "فزان" الضلع الثالث في مثلث برمودا الليبي والاستعمار الفرنسي لذا الإقليم لمدة تجاوزت استقلال البلاد بسنوات خمس.

يقول القائل إني بهذا أهرب من الحال إلى ماضيه وأقول أهرب منه إليه ففي "مذكرات بن حليم" تضاريس أو هيكل اللحظة الراهنة لأنه يترصد المشكل البنيوي في المسألة الليبية، ففي نشأة الدول الحديثة ثمة أعطاب تخلقت بالضرورة من تحول حاصل في مفهوم الدولة الحديثة ومن ثمة في هويتها، وأمسى التاريخ نتاجا للجغرافيا السياسية من جهة، والجغرافيا صنيعة إرادة دولية خاصة عقب أعظم حرب في تاريخ البشر التي أنهاها دخول العصر النووي والإكتروني.

كتاب "بن حليم" كما مثله من كتب هو سردية ذاتية لمعضلات موضوعية، ولهذا فإنه بمثابة مجس للمشكل البنيوي الليبي مشكل الدولة التي جاءت العولمة لكي تميع مفهومها، بل وتحدث انزياحا حرجا في دلالات وجودها في أهم مرتكز قاعدة تأسيسها: السيادة الوطنية.

"بن حليم" في كتابه يبان أنه يعاني كمسئول على رأس الدولة وكما مواطن معضلة "السيادة الوطنية" التي دونها لا مواطنة له، ودونها لا مسئولية له، في اللحظة الاستثنائية التي كان فيها من المؤسسين الأوائل والمسئولين ذات اللحظة:
ليبيا بالاستعارة إمبراطورية الرمل التي لا تهم أحدا والتي بمثابة كيس من الرمل يحمله أبناؤها في قيظ وشساعة صحرائها، تهم كل أحد -وبينة ذا الحرب العظمى- فهي العروة الوثقى في الملمات وحين "انتقام الجغرافيا" تكون ليبيا الصدارة وليست في الصدارة وحسب، لهذا سردية بن حليم متن هذا المشكل المعضلة التي واجهتهُ كأحد المؤسسين في لحظة مفارقة عقب حرب ومستلزمات إزالة الحرب العالمية في عصر نووي، في متن سفر "بن حليم" ملزمات تحوي المعضل وتكشف عن تفاصيله ومكمن الشيطان فيه: الدولة المترامية الأطراف التي توجد على أرضيها أكبر ثلاثة قوى عسكرية لدول عظمى في التاريخ البشري، هذا التواجد المعضلة الضرورة لكل الأطراف وغير المرغوب منها ذات اللحظة، بتوضيح ذلك فإن سردية متن "بن حليم" تبيان بأن ليبيا محمول لموضوعة جيوسياسية مشكل في تلكم اللحظة الاستثنائية وفي اللحظة الراهنة رغم تغير المعطيات:
أ‌- ليبيا في حدودها الغربية كان ما يسمى حينها الإقليم الفرنسي الشمال الأفريقي الممتد حتى إقليم فزان الضلع الأعوج فيها وبطنها الرخو!، وكانت رأس رمح الأزمة المسألة الجزائرية ومن ثم ثورتها.

ب‌- ليبيا في حدودها الجنوبية ميوعة ظاهرة لبها الصحاري الكبرى و50% الصحراء الليبية تقريبا، أراض شاسعة غير مرئية لكنها عود في العين وبؤبئها، وحوله دارت الدوائر وتدور.

ت‌- ليبيا في -"برقة"-! حدودها الشرقية البلاد الكبرى والمعضلة الأكبر، فمصر تعطي بظهرها لغربها وكعبتها مشرقية لكن تعد برقة -كما السودان وسيناء- امتدادها الجيوسياسي وليس الجغرافي فحسب، فمنذ حقب التاريخ الأولى ومتى ما توفرت القوى كان الفعل وإن لم يتوفر يكون القول وسيلة الضغط للحرص على ذلكم.

هذا المعضل البنيوي في لب تأسيس الدولة حظي بمتن سردية "بن حليم" ومدونته، ويبين من خلال سرد مفصل ومعلل ومسبوك كيف حظي منه ومن الملك والدولة بالجهد الرئيس والتفكر والدهاء والحنكة، ثم إدراك أنه كما هو مسألة رئيسة فإنه الهاوية التي تستنزف الطاقة والإمكانات الكفاف، لهذا فإنه يبين الجهد الذي بذل للانفكاك من سرابيته ولا محدوديته، من أسره المحتم والتعامل معه كمن يقطع الصحراء الليبية وزاده من الماء شحيح. ويبين أنه عامل مسألة الجيوسياسية الليبية بمنطق التاجر خذ وطالب وما تخسره هنا اعمل على أن تكسبه هناك، وهذا يرسم ظلال شخصية "مصطفي بن أحمد بن حليم" التاجر في فيافي الصحراء المقتر على نفسه قبل، وما يرويه في الخصوص من تفاصيل تبين أنه كثيرا ما اتخذ الكسب في السلعة الصغيرة والمطلوبة طريقة إلى المسائل الكبرى...