Atwasat

أدب السجون: عود على بدء

خليل الحاسي الثلاثاء 20 يونيو 2017, 11:55 صباحا
خليل الحاسي

لا يوحي بالحزن قدرٌ مثل قدر المثقف الليبي، ولن تتوفر لديك قراءات أصدق عن عدواة الاستبداد مع المعرفة، من قراءة أعداد المثقفين الليبيين الذين أُودعوا سجون الديكتاتورية التي كانت السخرية من المثقف والثقافة، وحبك التهم الكيديّة إحدى أهم أساليبها للنيل من حركة التحديث وتعطيلها وتضليل الرأي العام.

يتعلم البشر دروسا عن الظلم والانتهاك في زمان ومكان ما، غير أنهم يسارعون إلى نسيانه في زمان ومكان مختلفين. لذا فإن إضفاء الطابع الإنساني على قضايا المجتمع، وخلق مقاربات لتجارب مجتمعات مشابهة، من شأنه إنقاذ العالم من النسيان، وعندما أتحدث عن أدب السجون الذي عرفته كقاريء لتجارب أدبية ليبية خاصة، فإنني أرفض تمريره في مسارب الخصوصية التاريخية والثقافية، وإغفال أبعاده الإنسانية المتواشجة والمتعالقة مع التجارب الثقافية الإنسانية الأخرى.

فالمثقف يعيش في فضاءات كونية، تتجاوز الهويات الثقافية والعرقية والدينية. والمثقف الذي خاض تجربة السجن، هو إنسان أوجد نفسه بنفسه، بعد أن حطّم القوالب والتنميطات وأوجد التمايز الدقيق بين التعميمات، ودخل في مواجهة مباشرة مع الاستبداد والتسلّط. تتضح تجربة الإرادة الثقافية الواعية التي لم تخضع لابتزاز الوعي العام داخل النتاج الأدبي للمثقفين الليبيين الذين لم يعتبروا أنفسهم ضحية لثقافة المجتمع السائدة. أكثر من ذلك، كانوا في جاهزية كاملة لأن يُنبذ أحدهم اجتماعيًا وأخلاقيًا من المجتمع، ويُطارد ويُقتل أيضا. وهي ذات التجارب العميقة لمحنة المثقف في أزمنة ومحطات وأماكن أخرى من العالم.

كانت علاقة المثقف بالسلطة الحاكمة مثار جدل على الدوام حاول خلالها المثقف وضع مركزه الثقافي في ساحة المعارضة التي تنتمي لتطلعات نخبة المجتمع

تأمَّل المتفائلون أن يُدفن أدب السجون إلى الأبد مع سقوط الديكتاتوريات الحاكمة واختفاء عسسها وانزواء حرّاس الإجابات المطلقة خارج دائرة الضوء، فحرية التعبير بكافة أشكالها الفنية والأدبية مفتوحة اليوم على مساحات الحلم الديموقراطي. وكنتُ من الذين اعتقدوا أن هذا الأدب الليبي النضالي الآسر، سيتوقف عند هذه المحطة التاريخية الفارقة. غير أننا تجاهلنا ونحن نعيش المشاعر النبيلة لذلك الوهم الفاتن، أن الثورة تُحيل هياكل النظم الاستبدادية إلى ركام، لكنها ترغمنا على إعادة البناء بذات الركام. هو نوع من الابتزاز الذي يفرضه الواقع على الحلم، فلن يتأتى لنا الفصل الصارم بين عهد عبودية الجهل القائم وعصر حرية المعرفة الذي لم يتسن له الانتقال من الممكن الذهني إلى الممكن الواقعي.

كانت علاقة المثقف بالسلطة الحاكمة مثار جدل على الدوام، حاول خلالها المثقف وضع مركزه الثقافي في ساحة المعارضة التي تنتمي لتطلعات نخبة المجتمع. لقد أراد "المثقف الطليعي" أن يجد له مساحة داخل النمط الاجتماعي- باستخدام سلطة المعرفة- جنبا إلى جنب مع النظام السياسي الحاكم. وربما ما أثار الاشتباه حول نوايا المثقف عند شريحة عريضة من المجتمع، اتفاقه الضمني مع السلطة في تقسيم البشر انطلاقا من الفروق العقلية والمعرفية داخل الواقع الاجتماعي. دون أن نغفل الاختلاف في غايات ذلك التصنيف القيمي، فالمثقف يريد بذلك فهم ظاهرة التخلف، ومن ثم، تفسيرها. أما السلطة الديكتاتورية تسعى لتأبيد ذلك التخلف للبقاء في السلطة وطمأنة القلق الغربي من خلال تقديم مجتمعات الأنظمة الشمولية بوصفها مجتمعات قاصرة وغير جاهزة للديموقراطية. ولكن تظهر إلى السطح إشكالية تحتاج تأملات واعية حول علاقة المثقّف بالمجتمع. هل نطلب- هنا- من المثقف أن يتنازل عن سلطته الأدبية في مقابل "تنظيم المشاعر الجماعية الجارفة" بوصف جوليان بندا؟.

لا يرى المثقف الواعي بوظيفته الأخلاقية والمعرفية سلطة لا يمكن نقدها وإلقاء اللوم عليها، سلطة المجتمع والتراث وسلطة الأنظمة الحاكمة على حد سواء. إذ لا توجد في ذهن المثقف قوى في هذا العالم أكبر من النقد. وهو يقف دائما ضد السلطات الغاشمة، دون أن تتمكن الأخيرة من استيعابه أو استقطابه. ذلك أنه اختبر صلابة تحول دون إشفاقه على نفسه؛ إنها صلابة الموقف.

تحوطنا السياسية في كل مكان وزاوية، ولا أَجِد معنى خلف الخطاب الثقافي الذي يروّج للهروب إلى الفن والأدب الخالصين المنزّهين عن العصر ووقائعه اليومية. فالمثقف، الفنان، الأديب؛ جميعهم تحت طائلة السياسة العامة القائمة على الصور التي تطرحها السلطة الحاكمة. والتشكيك في الرواية الرسمية وتلك الصور إحدى أهم فرائد المثقف.

لا ينفك المثقف يبحث عن الحقيقة الثقافية النسبية، وهذه الحقيقة التي يطاردها المثقف، ليست الحقيقة المُطلقة التي يلهج بها الفقيه، كما أنها تختلف عن الحقيقة التي تتبناها الأنظمة الديكتاتورية لاكتساب مشروعية سياسية أكبر تتجاوز بها الزمان والمكان والظروف الاجتماعية. ينخرط المثقف في عملية الإنتاج المعرفي، أو لنقل بعبارة ثانية، يساهم في تأسيس الوعي العام، وفي كل ذلك سيكون عرضة على الدوام للتكفير السياسي والديني والمجتمعي.

تعود واقعة سجن الكاتب والمثقف الليبي جابر العبيدي لتذكرنا بصوت جَهْوَرِي أن الاستبداد والديكتاتورية أعادا تموضعهما في مراكز السلطة تحت حجة محاربة الإرهاب، وهذا يجعلنا نتأكد أن القوى المسلّحة التي سادت المشهد الليبي على اختلاف أسمائها، قوى تناهض حرية الرأي والكلمة في البعد الخاص وتكفر بمبدأ الحرية في بعدها العام. غير أن التاريخ كما عوّدنا على الدوام سينتصر للحرية ومثقَّفيها وأصحابها ويخلّدهم، وسيذهب بالسجّان وسدنة القمع إلى منافيه البعيدة.