Atwasat

رسالة من لندن 5

جمعة بوكليب الأحد 27 أبريل 2014, 10:38 صباحا
جمعة بوكليب

الإمبراطورية البريطانية، التي وصفتْ بأنها لا تغرب عنها الشمس، غابت مثل غيرها من الإمبراطوريات التي شهدها العالم، وبقي الحنينُ إليها حيّاً وممزوجاً بشيء من حسرة في قلوب البريطانيين حتى يومنا هذا.

البريطانيون في حنينهم إلى أيام إمبراطورتيهم يختلفون عن الإيطاليين الفاشيين، وشهوتهم الحارقة، إن لم تكن المجنونة، إلى إعادة أمجاد روما، وما سببوه نتيجة لذلك من آلام للشعب الإيطالي أولاً ولغيره من شعوب العالم، وخاصة في ليبيا والحبشة والصومال. والبريطانيون أيضاً يختلفون عن الغلاة في الجماعات الإسلامية المختلفة التي ظهرت على السطح في العقود الأخيرة، وسعيها إلى إحياء أمجاد الإمبراطورية الإسلامية، وما نراه ونسمعه هذه الأيام من دعوات تطالب وتسعى إلى إعادة الخلافة الإسلامية ليس إلاّ واحداً من تجليات عديدة لهذه النوستالجيا.

لكن ما يميز البريطانيين ويفرقهم عن غيرهم من الأمم في التعامل مع ماضيهم هو قدرتهم على مد جسور تصل بين الماضي والحاضر بشكل يسمح بحدوث تواصل وتلاقح مستمرين ودون حدوث تصادم وتنافر مقيت بينهما وربما يعود ذلك إلى برجماتية التفكير البريطاني وواقعيته في التعامل مع منطق العقل والتاريخ ونفوره من جنوح المثالية وركوب بحار الأوهام، لذلك اتسمت العلاقة بين البريطانيين وماضيهم الإمبراطوري بنوع من المصالحة الواقعية، بمعنى أنهم على وعي بتاريخ أمتهم وما يحمل هذا التاريخ من سمات إيجابية وسلبية، ولذلك فإنهم يتعاملون معه بعقلية نقدية لا تعترف له بالقداسة وبعقلية نفعية تجارية سعت إلى تحويل التراث التاريخي البريطاني على عمومه والمعماري على خصوصيته إلى منجم ذهب.

في كتابه مواقف، الذي ترجمته إلى العربية ونشرته دار الآداب في الستينيات من القرن الماضي، يخصص الفيلسوف والكاتب الفرنسي جان بول سارتر فصلاً للحديث عن زيارة قام بها إلى أمريكا ويحكي بتفصيل عن انطباعاته عن مدينة نيويورك حيث يقول، على عكس شوارع لندن وباريس، فإن شوارع نيويورك و غيرها من المدن الأمريكية تفتقد لعبق التاريخ لأن أقدم مبنى بها لا يتجاوز عمره الثلاثين عاماً وبعد فترة سوف يهدم ليتم تشييد مبنى آخر مكانه.

النوستالجيا، أو الحنين إلى الماضي، على الطريقة البريطانية تبدو لي ممثلة، ضمن أشياء أخرى، أفضل تمثيل في المعمار البريطاني حيث يبدو الحرص والاعتناء على التواصل المستمر مع الماضي وحيث تتمدد عصور الماضي في الحاضر عبر قنوات عديدة بشكل براجماتي يتسق مع طريقة تفكير العقلية البريطانية من خلال الحفاظ على الفن المعماري الذي أبدعته الحقبة الفيكتورية، نسبة إلى الملكة فكتوريا، أو الادواردية، نسبة إلى الملك إدوارد الذي خلف الملكة فكتوريا، أو إلى الحقبة الجورجية، نسبة إلى الملك جورج السادس والد الملكة اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا الحالية.

من خلال المعمار، ممثلاً في الأبنية والجسور، أشعر، كمراقب خارجي، أن البريطانيين باستمرارية حفاظهم على تراثهم المعماري إنما يبدون حرصهم على الارتباط والتواصل مع ماضيهم في عصوره الذهبية دون التفريط في حاضرهم والتواصل مع أحدث ما أنجزه الإبداع والتقدم الإنساني على كافة المستويات الحياتية، ويبدو ذلك ممثلا بوضوح أكثر في العاصمة لندن حيث يتجاور الماضي والحاضر معماريا جنباً لجنب في تصالح واستمرارية ملحوظين ويعيش المواطن حياته اليومية في مجتمع متقدم صناعياً دون إحساس بوجود هوة زمنية تفصله عن ماضيه أو تحرمه من التمتع بالعيش في حاضره بسلاسة ووفق معادلة حياتية دقيقة وممكنة في وقت واحد ودون نشاز.
الحديث عن النوستالجيا إلى الماضي يقودني إلى الحديث عن بعض الحالات الفردية لأشخاص قابلتهم وعرفتهم أو لأشخاص سمعت أو قرأت عنهم ووصل العمق النوستالجي للماضي لدى بعضهم حد المرض والتأزم النفسي الذي قد لا يجدي معه علاج. إنهم لا يرون الحاضر ولا يريدون أن يكونوا جزءاً منه وكل حديثهم لا يدور إلا تحسراً على الزمن الجميل الذي مضى ولن يرجع وتركهم كالأيتام على مأدبة حاضر لئيم وقاتم ومستقبل أكثر لؤماً وقتامة.

والحقيقة أنني أتعاطف مع هؤلاء الناس وتعاطفي ناجم عن إحساس بالتألم لعجزي عن فعل أي شيء تجاه إنسان آخر مريض ولا أمل في شفائه.

التوق الإنساني بالعودة إلى مرابع الطفولة والصبا والشباب هو أيضاً شكل آخر من أشكال تمظهر النوستالجيا وأكثرها حضوراً وأقلها ضرراً على المستوى النفسي، على ما أعتقد، وهذا الحكم التقييمي الشخصي لم يأت من فراغ بل هو نتاج لتجربة شخصية عشتها ومازلت أعيشها وأستعذبها، في بعض الأحيان، لأنها قادرة على تخفيف لواعج ألمي وتكون لي بمثابة ملجأ من عذابات الحاضر، لكنها في أحيان أخرى قد تكون مؤلمة وتزيد من إحساسي بالعجز والحسرة وأنا أرى نفسي غير قادر على ممارسة أشياء ما كنت أظن أنه سيأتي يوم يكون فيه من المستحيل عليَّ التمتع بممارستها.

وأعترف أنني في بعض الأحيان أضبط نفسي متلبساً باسترجاع مواقف من زمن الطفولة وأرصد بدقة سيل المشاعر المتدفقة في قلبي فيعن لي أن أتساءل عن الأسباب التي تجعلني مغموراً بهذه المشاعر الجميلة والحيية مع علمي الكامل أنني عشت مع أبناء جيلي طفولةً أقل ما يمكن وصفها به أنها كانت بائسة وفقيرة في وطن يسكنه شعب بائس وفقير ذاق ويلات الاستعمار والحرمان من ممارسة إنسانيته فوق أرضه، وحين أخيراً حصل على استقلاله وجد نفسه وحيداً في مواجهة العوز والحرمان والجهل والمرض.

ويبدو هذا النوع من النوستالجيا أكثر وضوحاً لدى الكتاب والشعراء والرسامين والفنانين وتختلف درجات حدة ظهوره بينهم حيث تشتد حدتها عند البعض وتخفت عند البعض الآخر لكنها تمثل محاولة للإفلات من براثن الحاضر إلى رحاب الماضي، حيث ملجأ الأمومة الرحيم والآمن وحيث تكون الكلمات والألوان والرسوم وسائط بين العالم الروحي والعالم المادي كما تقول الشاعرة اللبنانية عناية جابر في بعض ما كتبته من انطباعات عن كتاب ( فرصة ثانية ) للشاعر الأردني المرموق أمجد ناصر.

ولأن الحاضر مراوغ ودروبه كثيرة ومعقدة ومليئة بالمطبات وتقود إلى مجهول لا نعرفه ولا نأمنه ونخافه ربما لذلك، وربما لأسباب أخرى، يكون من الأسهل علينا كبشر الركون إلى الماضي ومحاولة الاختباء من الحاضر في ثناياه لأنه مجرب ومعروف والأهم من ذلك أنه يتسم بالأمان حتى وإن كان لا يخلو من ألم.

ليس فقط من المستحيل منطقا وعقلا استعادة الزمن المفقود ومحاولة دفعه قسراً كثوب ضيق وبالٍ على جسد واقع مختلف النبض والإيقاع والطموحات، بل من الواقعي جداً التعامل مع تراث الزمن المفقود بعقلية من يحاول أن يحدد ويتفهم مناطق الضوء فيه ويحاول العمل لمواصلة
البناء والتطوير على ما أنجز وتحقق في مناطق الضوء المتقدمة تلك.