Atwasat

مروِّضُو الموت

خليل الحاسي الأحد 30 أبريل 2017, 11:15 صباحا
خليل الحاسي

إن أكثر ما يشدني في الأدب فكرة الموت بشكل آمن، وقابليته للاختبار والتكرار. أستطيع الموت مع أي بطل تاريخي في رواية، وأستطيع الحياة بعده. ذلك التعدد في الحيوات يمنحني القدرة على نقل تجربة الموت من كونه نتيجة طبيعية للحياة، إلى جعله سببا كافيا للحياة. الموت في الأدب يشبه إلى حد كبير الأفق الذي لا يتحقق وجوده إلا في البعد. هو نوع من البعد الذي يحافظ على معنى الموت قريبا وفي متناول الفهم. وتبدو كل التصورات عن تناسخ الأرواح والوجودات السابقة محاولات شعرية تتوق لتجريد الموت من خصيصة الفناء. فكل واحد منّا يعتقد في داخله بفكرة الخلود، نحن ببساطة شديدة لا نود تخيل أنفسنا من الأموات.

عندما تندلع الحرب تتلاشى كل الافتراضات السابقة عن فكرة الموت. ذلك أنها تعالج الالتباس الدائر حول هذه القضية، فتتحطم كل المفاهيم في هذه المواجهة المباشرة والفجّة مع الموت. ومن المفارقات أن الحرب تعيد للحياة توهُّجها؛ ففي مواسم الحروب تستعيد الحياة ديناميتها بشكل نعجز عن فهمه.

تنصحنا الحرب بالقسوة وتجاوز موت من نحبهم، وتجبرنا على الانخراط في حرب الكراهية والتشفّي. فالذين قرروا المكوث في بيوتهم، ينتظرون نبوءات الفقد عن الأحبة والأخوة والأصدقاء، لا يختلفون كثيرًا عن المحاربين الذين أصبحوا جزءا من عجلة آلة الحرب المرعبة.

قوة العنف المعدية راحت تجتذب الليبيين وتبتلعهم الواحد تلو الآخر

الأجساد المصروعة على أرض الوطن تمثل انتصارًا لقيامة الأجساد التي تكنُّ لها الكراهية، وتضمر لها مواقف سياسية تفترض وجود وطن أفضل في غيابها. ولكن، ما يميّز الإنسان البدائي عن الإنسان المديني الذي يتورط في الحرب الأهلية، أن الأول يرزح تحت تأثير خطيئة الدم حتى بعد عودته منتصرا لقريته وأهله. فلن تتوقف أرواح المغدورين عن مطاردته ولن ينال السلام حتى يُكفّر عن ذنبه بوسائل شاقة؛ أستطيع القول أن "الخرافة" في هذه الحالة تنتج قيمة أخلاقية تستحق التقدير. أما الأخير فلديه من المسوِّغات العقلية والوطنية والدينية للعنف، ما يرفع عنه حرج الندم على ذلك التورط الرهيب في إزهاق الأرواح.

ها هي ذي الحرب التي تداولنا على رفض تصديق حدوثها قد اشتعلت. لا تزيد هذه الحرب الجديدة عن سابقتها في إهدار الدماء، ولكنها مساوية لها في العناد والمرارة، إنها حرب الانتهاك والثأر والتموقع وتناوب الجميع على دور الضحية والجلاد. تؤسس الحروب لمجتمعات منتهكة موازية للمجتمع، وتصنع ذاكرتها الخاصة من الرماد والألم والدماء والثأر. أكثر من ذلك، تفرض عقدا اجتماعيا من الخوف وسوء النية يمهد لإقامة قوانين دراكوية1 ضد أي موقف سياسي توافقي يشذ عن إرادة المنطقة أو المدينة أو القبيلة. تفترض الحرب أن لا مستقبل لأي نوع من أنواع حسن النية بين المدن والأفراد بعد انتهائها. لذلك تجذب نحوها موجة كبيرة من ثقافة الانتهاك والتهجير والتنكيل، وتدوس كل ما يصادفها.

قوة العنف المعدية راحت تجتذب الليبيين وتبتلعهم الواحد تلو الآخر. ورغم الاختلاف بين القوى التي تصطرع على الأرض، إلا أنّ الخارج لا يرى فيها إلا التماثل، تماثل يستحيل أن يُرى من الداخل. تماما كما نعجز عن رؤية ذلك الاختلاف من الخارج. غير أني أفهم حق الفهم لماذا يعْتاص على المرء اتخاذ موقف صارم ومحدد من الموت وهو محاط بالموت. ذلك أن علاقته مع الموت أصبحت حميمة إلى الحد الذي لا يستطيع معه الانتفاض على سلطته.

تمثل التجربة الإنسانية مع قيم الحرية الوجه الآخر لسلسلة متينة من جرائم الجنس البشري. ذلك أنها، أي الحرية، تقدِّم الجميع على مذابحها وتسخر من فكرة الحياة إزاء شعاراتها اللامعة. وبعبارة ثانية، تقول الحرية أن الحياة ليس لها أن تكون أثمن من القيم الإنسانية العليا. وينبغي-هنا- ألا يبادر القارئ إلى اتهام السطور السابقة بوصفها دعوة إلى الركون للاستبداد والعبودية، أو التفكير فيها كنوع من الحكمة المتعجرفة التي تنهار عند أول تجربة.

يعود الأدب من جديد وفي كل تجربة إنسانية مماثلة، لإعادة التوازن الإنساني الذي اختل بسبب عواصف الموت. فقد بدأ الكثير من الليبيين بالتعبير عن وعيهم الوطني الخاص بالترويج للسلام في شعر وروايات ومقالات خارج الروح الخطابية السياسية والثقافية السائدة. واستطاع البعض ترويض منفى الهوية المؤقتة، عبر استدعاء هويته الإنسانية من زحام الهويات القزمية التي اختلقتها الحرب الأهلية الليبية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قانون دراكو الإثيني القديم، لا يعرف عقوبة لأية جريمة إلا عقوبة الموت.