Atwasat

إكراه مقدس

صالح الحاراتي الأحد 23 أبريل 2017, 10:52 صباحا
صالح الحاراتي

فى البداية وبمرور عابر على قواميس اللغة نجد أن معنى الإكراه يعني الإجبار والإرغام عَنْوة، ويقال مثلا أكْرَهَهُ عَلَى الاعْتِرَافِ بِمَا لَم يَقُمْ بِهِ: أي أَجْبَرَهُ، أَكْرَهَ خَادِمَهُ: حَمَلَهُ عَلَى إنْجَازِ أمْرٍ مَّا قَهْراً وَتَعَسُّفاً، أي أَرْغَمَه عَنْوة.

ذلك المعنى الذي أظن أننا نعرف كنهه وطبيعته لأننا نعيشه واقعا ملموسا ومن خلال المعايشة سنلاحظ أن الإكراه أنواع، منه ما يشمل الإتيان ومنه المنع.. فقد تكره على قول أو فعل أو سلوك معين لا تؤمن به وقد تكره من خلال المنع أي تكره على الصمت من خلال تغيب ومنع وسائل التعبير.

وظني أن إكراه الضمير والمعتقد أي الإكراه المقدس أشدهم ألما على النفس.

وما حدث عبر تاريخنا القديم والحديث هو تبنٍ لذلك الإكراه دون أن يستطيع الإنسان التعبير عن معارضته ولا الشكوى من وطأته، لأن ذلك الإكراه يتم تحت شعار الحفاظ على المقدس. ويستمر استنساخ تلك الحالة كلما زادت شدة خواء العقل وغفلة الروح بحيث يصبح للغة الخشبية مكان فسيح بيننا وتتسيد الخطاب المتداول!

قرأت ما قاله يوما الشيخ الشعراوي من أن من يكره الناس على شيء هو أول من يثبت بطلانه ويؤكد أنه لولا الإكراه على ذلك الشيء لما اعتقده أحد لأنه شيء مرفوض. ولذلك، فإن أصحاب المباديء الرديئة عادة ما ينشرون مبادئهم بالقهر والإكراه لأنهم يعلمون أنه لولا ذلك لما اتبع أحد مبادئهم، ولو كانوا يعتقدون أن مبادئهم نفيسة وسليمة،لأقدموا على طرح مبادئهم على الناس ولأعطوا الناس حرية الاختيار بين الأتباع من عدمه. وفي مثل هذه الحالات، المؤكد أن تنهدم المباديء المكره عليها بمجرد غياب القهر والإجبار.. ويقول أن الله تعالى لم يكره خلقه وهو خالقهم على دينه الحنيف، بالرغم من قدرته على قهر الإنسان المختار على اعتناق هذا الدين كما قهر السماوات والأرض والحيوانات والنباتات والجمادات، ولكن الله تعالى يريد أن يعرف من يأتيه محبا مختارا وليس مقهورا..
"وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين"َ.

وبالرغم من بداهة الأمر كما ورد فى النص فإن البعض يمارس الإكراه من خلال خلط المفاهيم وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة والوصاية على الناس بحيث يتم إنتاج قناعات مغلوطة عبر التاريخ تبرر الإكراه وتتمنطق بالاستعلاء وادعاء الخيرية على سائرالناس.

وعلى نقيض ذلك الإكراه المقدس العنفى نجد إكراه مقدس يركن إلى السلبية وادعاء مسلمات لا أساس لها... مثل الذي يظن أن سريان القوانين الطبيعية على البشر يتفاوت بحسب "الإيمانيات"!!. انطلاقا من موروثنا الديني الذي يشغل حيزا مهما وراسخا في العقول وما ينتج عنه من ثقافة تغص بالاعتقاد في عدمية الإرادة الإنسانية مثل التعبير الدارج الذي يقول «المكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين».

ذلك الفهم سيؤدي باولئك إلى الركون والاعتقاد بأن الإكراه يأتي من قوة خارجية خارقة تمارس الفعل القهري لإجبار الإنسان على الإذعان والاستسلام، ذلك ما كان سائدا وأوجد في الذاكرة الجمعية القناعة بالإكراه كنتيجة حتمية لضعف الإنسان عن تقرير مصيره.. انطلاقا من يقينيات راسخة تراكمت في العقول عبر قرون فأنتجت بشرا تتبنى القبول الطوعي "بالإكراه المقدس" حتى يصل الأمر بالبعض إلى تلبيس كل المساويء للسماء هروبا من الاعتراف بالمسؤولية الفردية مثل اﻻعتقاد بأن إرادة الله هي التي سلّطت على الناس الظلم بسبب ذنوبهم، وأن الاعتراض على الظالم والظلم هو اعتراض على المشيئة الإلهية!!، وأن انتقاد الواقع الظالم هو اعتراض على القدر الإلهى!! وبهكذا عقول يستمر ركب نكوصنا وتخلفنا

من خلال فكرة "جبرية الإكراه"! التي قادت مصير مجتمعاتنا قرونا عديدة ولا تزال، وبرعت في جعل إنساننا مقتنعا بوجوبية السمع والطاعة والاستسلام للأمر الواقع باعتباره قدرا إلهيا لا فكاك منه، حتى يذهب بنا ذلك الاستسلام إلى التسليم للحاكم بحجة "طاعة سلطان غشوم خير من فتن تدوم"! وأنه لا يجوز الخروج على الحاكم مهما فعل؛ مما راق لكل المستبدين طوال تاريخنا وجعلهم ينحون إلى ترويج هذه الثقافة حتى يعتنق المجتمع ثقافة العبودية ويصبح البؤس الذي نعيش فيه قدر إلهيا لا فكاك منه وأنه من سنن الحياة.

ولعلنا لاحظنا ما يحاوله أهل ذلك التوجه من ترويج القول على ما حدث فى فبراير2011 بأنها ثورة مأمورة وأنها المباركة وأنها ثورة التكبير؛ وما إلى ذلك، ليس من باب الاستحواذ والادعاء بالوصاية عليها فقط ولكن من أجل تمرير المعنى والدفع بالناس لعدم السؤال أو الامتعاض مما يُفعل بهم وبحيث يصبح كل معارض سياسي يتجرأ على نقد المأمورة والمباركة كافرا وزنديقا مباح دمه، بينما الحقيقة هي أن ثقافة الجبر والإكراه السائدة ليست إلا محاولة للهروب من مواجهة النفس وتبيان قصورها وعجزها.. بينما الواجب هو الإيمان بأن الإرادة الإنسانية الحرة (إما شاكرا وإما كفورا) تترك المساحة للاختيار الحر بل توجب مقاومة الظلم لأنه فعل بشري وليس إرادة إلاهية، حتى ولو تم تسويغه من المتاجرين واأوصياء على الدين.

وتبعا لما سبق فإن (المكتوب) ليس مجرد منهج تفكير ديني غارق في الخضوع السلبي، بل يستخدمه السدنة كأسلوب أو استراتيجية لتفسير تناقضات الحياة الاجتماعية والتفاوت واللامساواة والظلم وأشكال التعسف التي تمارس على الإنسان لكي يصبح الإكراه المقدس والمكتوب استراتيجية ومنهج تبرير للواقع المأزوم.

ويبقى أخيرا أن أقول.. إن الإكراه المقدس عبر التاريخ كان هو الأداة التي يستخدمها سدنة المعبد والأحبار وأهل الوصاية على الضمير وسائر منظومة الاستبداد، وإن الإيمان بالإنسان هو أصل المسألة وإن الدين إنما جاء ليخدمه وهو سيد هذا الكون ومالك إرادته واختياره وذلك الاختيار هو مناط الثواب والعقاب، ولا قبول لأي إكراه وإن ارتدى عباءة المقدس.

لقد أوصلنا القبول بالإكراه المقدس إلى هدر الكرامة الإنسانية وإباحة القتل للمخالف وإزهاق الأرواح من أجل نيل الثواب المتوهم!!. وكان يفترض إيماننا بأن الجمود على الموجود مما أنتجه العقل البشري من معارف في إحدى مراحله السالفة، والتوقف عندها ظناً بصوابيتها بكفايتها، والركون إلى هذه المعارف والمناهج في التفسير والتحليل لفهم الحاضر والمستقبل ليس إلا عبثا وإضاعة للوقت، لأن ذلك النتاج العقلي كان معبراً عن مرحلة تاريخية قد ولت ولم يعد مجديا إنزاله على واقع اليوم.