Atwasat

الأوقافُ داعشُ أخرى

خليل الحاسي الأحد 16 أبريل 2017, 10:34 صباحا
خليل الحاسي

لم تتوقف الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية بالحكومة المؤقتة- التي تكفِر المثقفين وتُفسّق نشطاء المجتمع المدني في بياناتها القروسطيّة عن حرث الأرض لصالحها والاستيلاء كل يوم على مساحات جديدة، ولم تكف عن حملاتها المسعورة ضد أسواق الكتب وملاحقة منظمي النشاطات الثقافية والفنية. ففي الثاني والعشرين من شهر يناير الماضي صادرت القوى العميقة التي تحكم من إجدابيا إلى طبرق شحنة تحمل كتبًا وروايات عالمية متجهة إلى مدينة بنغازي، ومنذ ذلك اليوم لم تتوقف مصادرة الكتب وآخرها كان مطلع هذا الشهر في إجدابيا، عندما صادرت الأعمال الكاملة لمصطفى محمود، وثلاثية غرناطة لرضوى عاشور، وروايات عالمية أخرى.

يبدو للمراقب والقاريء للبيانات المتهاطلة للهيئة العامة للأوقاف السلفية أن تلك الهيئة تقود مشروعا سياسيا مسلّحًا بمقولات ومفردات تستحضر بشكل ملحمي كل أساليب العنف الديني والقذف والاضطهاد والتحريض واتهام المجتمع وتوعّده بالهلاك ما لم يدخل الأخير طائعا لمنطقة نفوذ الخطاب السلفي. وقد عبّر الوجود السلفي عن رغبته السياسية في الهيمنة على كل شيء من البداية، عندما أطلق على الجماعات الإسلامية الإرهابية وصف "الخوارج" واستدعى من عمق التاريخ صراعات تاريخية سياسية لفرقة إسلامية ظهرت لأسباب وظروف سياسية خاصة، ثم دفنها الزمن مع وقائع التاريخ السياسي الإسلامي. ولئن كان جعلُ الخوارج أمرا واقعا من شأنه استدعاء وشرعنة وجود الخصم السياسي للخوارج الذي يمثل السلفيين، فهو في الوقت ذاته تغييبٌ للرأي العام عن حقيقة تطابق الجماعات الإسلامية في النوع، وإن اختلفت في درجة خطاب التكفير الذي يشتد ويضمر، على حسب قربه من السلطة الحاكمة، وإلا فالمنطلقات الفكرية والثوابت والأهداف التقليدية واحدة.

عندما أراد المجتمع محاربة الإرهاب وقع في حرج خفي يؤرق ضميره الديني. ذلك أن الحرب على الجماعات الإسلامية التي تروج للشريعة الإسلامية، يعني، في جزء منه على الأقل، محاربة "الشريعة" ذاتها. فكان لا بد من خطاب ديني مواز ينطلق الرأي العام من خلال ساحته الدينية في حربه علي الإرهاب. وكان الخطاب السلفي جاهزا لتقديم هذا الدعم الإيديولوجي، إضافة لوجود تجربة قريبة في الزمان والمكان داخل دولة مصر التي استعان الجيش فيها بالخطاب السلفي.

لا شك أن الخطاب الديني السلفي يدافع الآن عن سلطته، من خلال تسييس المنابر وشيطنة كل ما هو غير سلفي. إلا أن الوعي بحيثيات القضية يعمق فهمها، في الوقت الذي لا تنتجُ فيه الخطابات السجالية التي يشتبك فيها المثقف مع خطابات التأخر إلا مزيدا من تسطيح فهم الظاهرة.

في سياقات ظاهرة الردّة العامة ــ الثقافية والمعرفية والاقتصادية ــ التي أصبحت تشكّل الواقع الليبي المأزوم المهزوم في أبعاده الاجتماعية والسياسية، تتمظهر على السطح خطابات الجماعات الإسلامية الأصولية التي تعادي الواقع من خلال التمترس خلف حصون التراث تحت دواعي الإجابات التي أثارتها أسئلة الهزائم الحضارية، فتكون العودة إلى تداول النسخ القديمة للمفاهيم التي أسّست المجتمع الإسلامي الأول هي وعد الخلاص.

في أحدث إصدارات مواضيع الخطب المعممة والمطويات التي تقدمها الهيئة السلفية بشكل دوري- بعد أن التهمت كل الجوامع واحتكرت الخطاب الديني في الشرق الليبي- كان العنوان العريض "خطر العلمانية على الإسلام والمسلمين" ولا تحتاج للكثير لتفهم أن العَلمانية تمثل شيطانا للخطاب السلفي، فهل نحن اليوم إزاء خطاب عدائي يقع خارج حركة التاريخ؟.
أستطيع القول أنه خطاب تخلف يتوسّل لغة الدين، وخطاب دين يستدعي نبرة التأخر، وخطاب سياسة وحكم يوجه سهامه من ساحة الدين. ولطالما ضلّل الخطاب السلفي عموم المجتمع بحديثه عن عدم رغبته بالتدخل في السياسة، إلا أن المطوية الأخيرة الصادرة في الثاني عشر من الشهر الجاري على الصفحة الرسمية للهيئة والتي وزِّعت على الجوامع بطبعات فاخرة ستجعل الناس يعيدون النظر والتفكير في طبيعة الطموح السياسي السلفي المضمر. حيث ذكرت المطوية المعممة في نقطة "فصل الدين عن السياسة": (لا ريب أن هذا قول باطل وقول خاطيء، وأن الدين هو السياسة والسياسة من الدين... فكيف ينكر شمول الدين للسياسة أو فصل الدين عن الحياة).

بقيت لي ملاحظة أخيرة تدور حول نجاح الوعي المجتمعي المدني الضدّي المتفجر الذي صقلته التجربة في فهم طبيعة المسافات الوهمية بين الجماعات الإسلامية المختلفة في الاسم، والمؤتلفة في الممارسة القمعية والتسلط والهيمنة الإيديولوجية. وذلك ما تُرجم في "هاشتاق" تداوله عدد كبير من النشطاء والحقوقيين والمدونيين على مواقع التواصل الاجتماعي تحت اسم "الأوقاف داعش أخرى" بعد تغوّل أوقاف الحكومة المؤقتة على كل تفاصيل الحياة المدنية.

إن الفارق الجوهري بين الخطابين العَلماني المدني، والخطاب الإسلامي السلفي، أن الأول مؤسس على مفهوم الوطن والمواطنة والأمة السياسية المعرفة بترابها السياسي، أما الثاني فهو مؤسس على انتماء أولي ضيق يتمثل في وحدة العقيدة "الدين" التي تخلق هوية عزلوية متضادة مع الآخر. وإن المنجزات الفكرية الإنسانية، مثل الديموقراطية والعَلمانية والحريات الفردية وحقوق الإنسان، لم تعد قيما غربية كما يسوّق الخطاب السلفي، وإنما أصبحت قيما إنسانية تواقدت وتضارمت فيها تجارب الشعوب والمجتمعات التي حملت شعلة الحضارة، واستطاعت العبور من ظلام الجهل إلى سناء المعرفة.