Atwasat

الاستثمار في الذهب الأبيض!

علي جماعه علي الأحد 26 مارس 2017, 09:48 صباحا
علي جماعه علي

أما الذهب الأسود، بهذا الوصف المخاتل للنفط، فيمكن اعتباره وبتحديد صارم ثروة ميتة، ذلك لأنه لا ينمو ولا يتجدد، وبالرغم من كونه مصدرا ثمينا للطاقة وشريان الحياة لمدن "الحضارة " المترفة في الشمال، فقد تضاءلت قيمته بشكل مهين حتى صار سعر برميله أرخص من برميل الكوكاكولا.

ما لحق بالنفط من إهانة يرجع إلى كونه موردا حيويا لكنه غير متجدد وحساس للتقلبات السياسية، وكونه وقع فريسة لسلطة البترودولار الريعية الاستبدادية، وأيضا بسبب تطور بنى وأنساق متجددة وحتى غير مألوفة للثروات. والحصيلة، أن هذا النوع من الذهب لايمكن التعويل عليه في تلبية ومواجهة حاجات وتحديات المستقبل.

لحسن الحظ لدينا في ليبيا ذهب من نوع آخر وبكميات وافرة ومتجددة وأعني بذلك الذهب الأبيض، لكنه بقي إلى الآن كما مهملا بشكل مفجع بالرغم من كونه ثروة حية ويمكن تطوير جودته باستمرار وهو رصيدنا الموثوق في مواجهة متطلبات الحاضر والمستقبل.

تعبيرات مثل ثروة ميتة وأخرى حية تستدعي للنقاش مفهوم الثروة أصلا كمورد وعنصر توليد القيمة المضافة في الاقتصاد.

أذكر أني في يوم قائظ خرجت من محل ضيق ومكيف وأنيق لبيع الهواتف الجوالة في طرابلس، إذ ذاك قلت لصديقي مازحا (هذا المربع الصغير يدر على صاحبه في يوم أكثر ما تدره أراضي قبيلة ورفلة في عام).

كملاحظة شكلية عابرة، بدا لي صاحب المحل شابا رائق المزاج ناعم الوجه، يتسلى في انتظار الزبون باحتساء "المكياطة " ومشاهدة آخر أخبار العالم من الانترنت، ويستمع إلى موسيقى منعشة تغمر المكان. على الضفة الأخرى، وفي إحدى بطون الوديان المقفرة وفي نفس ذاك النهار القائظ والمغبر هناك، كان رجل خشن، يتصبب العرق من جسده، يصارع بكل ما أوتي من قوة لدفع جمله العنيد في صندوق السيارة الخلفي لغرض بيعه في المدينة، في ظل مخاطر ليس أقلها تعطل سيارته في الصحراء الخالية من البشر.

أكثر من ذلك، فإن صاحب الهاتف يبيع يوميا هواتف وملحقاتها ومتصل بالعالم بواسطة النت وتجارته دائماً حافلة بالجديد، أما صاحب الجمل فيبيع في الموسم ومعزول حتى عن القرية المجاورة وليس ثمة جمل "خمسة" و جمل" ستة" كما هو الحال مع النسخ المتعددة لهاتف الآي فون والذي يرتفع سعره بإضافات وتحديثات متواصلة.

لا ينبغي أن يساور تفكيركم أني هنا أقلل من قيمة النشاط الإنساني الضروري الذي ينهمك فيه صاحب الجمل لإعالة أسرته وتحسين وضعه المعيشي، إني فقط أستخدمه كمثال للتفريق بين أنواع الثروات وظروف تموضعها وآليات تخلقها.

فالمحل الصغير مع فكرة ناجحة (بيع أدوات نقل الكلام والصور) يدر ثروة أكبر من أراضي شاسعة قد تتحول إلى ساحة كَر وفر في مواسم الحرث النادرة. وفي حين يحتاج إنتاج وتسويق وبيع النقال إلى تعليم ومهارات ذهنية معقدة، يحتاج رعي الإبل إلى الجلد والصبر والقوة الجسدية.

وعلى الهامش، فإن قصتنا الحزينة مع الذهب الأسود هي أن الحكام جلسوا فوق آباره، يبيعون براميله، ويقبضون "الكاش" للصرف منه على المخبر والحارس والشاعر والصحفي والفقيه والساحر والمغنيات وباقي أفراد الشعب وكذلك للصرف على رشوة رؤساء ضعفاء وتملق رؤساء آخرين لكن أقوياء وحتى لتصدير الثورات والتطرف. فأضيفت لعبة الإفساد إلى قائمة اللعنات التي حلت بالنفط. في خضم هذه الفورة الريعية تم تجاهل الذهب الأبيض، الثروة الحية النابضة بالحياة وغير الناضبة إطلاقا.

الذهب الأبيض أيها السادة في متناول أيدينا، إنه "المعرفة " وإني أتجرأ على وصفها بأم الثروات جميعها والتي يمكن تخليقها بشكل كفوء وذكي وفعال في أدمغة أطفالنا يوميا. المعرفة التي لها الفضل في إنتاج الآي فون وبيعه في محل لطيف الأجواء وصناعة السيارة التي يشحن بها الرجل ناقته في ظروف مناخية قاسية. والتي نقلت جزيرة قاحلة مثل اليابان إلى عملاق اقتصادي.

تقع مناجم إنتاج الذهب الأبيض في أدمغة أطفالنا وشبابنا حيث تنبض الخلايا النامية المتجددة الطازجة المتحفزة القادرة على التخيل والإبداع والاكتشاف والاندهاش اللازم لخلق الثروات وتطويرها وتحسينها. تتوزع شبكة إمدادات الدعم الاستشاري لمناجم هذا الذهب الذي لا ينضب بين الأسرة والمدرسة ومعامل الجامعات ومراكز البحث العلمي ومؤسسات حكومية وخاصة ذكية. إلا أن الحاضنة الأساسية المهمة لتطوير هذه الثروة هي المدرسة التي ستنمي في التلميذ مهارات الاتصال والقيادة والتفاعل والعصف الفكري والتنافس.

يحتاج الامر إلى أن نجهز المدرسة لتكون معملا للتدريب وللتجريب الإبداعي وفضاء للحرية والتربية الديمقراطية. مدرسة تصقل في تلاميذها مهارات التفكير النقدي وتربط المناهج بمشكلات العالم من حولهم بهدف تنمية قدراتهم لمجابهة تحديات غير مألوفة في تخليق الثروة والمبادرة المستمرة لاقتحام أسواق عمل متحركة ومتغيرة وتنافسية.

الذهب الأبيض (المعرفة) سيجعل من الناس منتجين أقوياء ومثابرين ومنافسين وطموحين عندما يمتلكون ويمارسون تطبيقات المعرفة النقدية الجسورة في جميع مجالاتها. وهذا الزخم المجتمعي سيقوي ويدعم آليات المناعة ضد الاستبداد.

تذكروا انه بفضل هذا الذهب الأبيض ازدهرت اليابان وسويسرا وكوريا الجنوبية وسنغافوره وتايوان وبلجيكا دون أن تمتلك الذهب الأسود.

ودعوني أكرر مجددا أن الثروة النابضة والمشتعلة بالحياة ليست تحت أقدامنا ولكن في رؤوسنا، وليست تحت قشرة الأرض ولكن تحت قشرة الجمجمة، ليست الذهب الأسود المقبور ولا الأصفر المكنوز، بل المعرفة، الذهب الأبيض المفتوح للتطوير والذي يمكن تخليقه يوميا في أدمغتنا، ينير من حولنا المسالك والدروب المظلمة في رحلة الحياة الحافلة بالاختراعات المذهلة.