Atwasat

سقوف

سالم العوكلي الأحد 05 مارس 2017, 09:06 صباحا
سالم العوكلي

أفكر في الإنسان الأول كيف عاش في غابة سقفه السماء، التي تتلألأ نجومها من خلال أغصان الأشجار؟ كان بإمكانه أن يرفع رأسه دون أن يصطدم بحاجز أو يصفع نظرَه جدار، وعندما اكتشف الكهوف التي تحميه من الوحوش والعواصف والأمطار، انحنت قامته وأصبح أعلى جمجمته مليئاً بندوب الصخر الذي يباغته بضربة كلما رفع رأسه سهواً، مسكوناً بلاوعي عالمه السابق الذي كان دون سقف، وصار ينام مبكراً في عتمته دون أن يلعب لعبة عد النجوم التي كنا نغالب بها الأرق.

عشت بداية طفولتي في بيت من الشعر، منخفض المدخل والزوايا الأربع. كنت أرى الرجال يدخلون علينا بقامات منحنية لا تستطيع أن تستعيد استقامتها إلا في منطقة منتصف البيت، بين العامودين الرئيسيين اللذين بطبيعتهما دائماً أعلى من قامة أي رجل نعرفه في ذلك المحيط، وأهم ما في ذلك البيت إمكانية تحويل مدخله إلى الجهات الأربع حسب اتجاه الرياح ومزاجها المتقلب.

كان ذلك البيت يقسم في المناسبات إلى قسمين بحاجز شفاف من القماش يكون عادة رداءً نسائياً، فيكف الرجال عن النظر إلى النساء، لكن الأصوات تنتقل والحوارات المختلفة مسموعة لدى الجانبين. ينجز هذا التداخل الصوتي نوعاً من الاختلاط سيكون مسؤولاً فيما بعد عن هذا التجانس العضوي في مضامين الحياة الأنثوية والذكورية الذي يميز مجتمعات البداوة.

تزين أروقة هذا البيت وسقفه برقع ملونة من بقايا الملابس والأقمشة، وبشكل تلقائي لا يتحكم فيه سوى مساحة الرقعة المختارة ومزاج المرأة ومجازها أثناء الرفو، وسيتسرب هذا الكولاج الفطري فيما بعد إلى تشكيلي البصري، محققا تلك المعادلة التي تسعى لتوطين جمالية التجاور، ودفق الذاكرة عبر ما تحمله تلك الرقع من سيرة الأثواب التي لم تتخلَّ عن حضورها حتى بعد نهاية صلاحيتها.

في فصل الشتاء وعندما ينهمر المطر بغزارة، أو يسقط الثلج، كنا نأوي إلى الكهوف، وهي بقايا صهاريج رومانية قديمة، وكان سقف الكهف صخريا تبرز منه السواقط كثريات حجرية، تتراكم عليه عوالق الدخان وأبخرة الطعام، فيتحول إلى سماء سوداء تتخللها فتحات مضيئة كانت تستخدم لجلب مياه الأمطار داخل الصهريج.

انتقلنا بعدها إلى كوخ صفيحي، ارتفاع سقفه يعادل تقريباً ارتفاع مركز بيت الشعر، لكنه ومن أجل تصريف مياه الأمطار يميل في أحد الاتجاهات، مما يجعل ارتفاع السقف غير متجانس في كل أجزاء البيت، ومن مميزات هذا السقف المعدني أنه يجعلنا في حالة تواصل حسي مع الطقس، فبالإمكان سماع صوت الأمطار الذي يزيدنا خدراً تحت الأغطية الصوفية الملونة في ليالي الشتاء الباردة والطويلة، وبالإمكان أيضا الإحساس بحرارة الشمس ووهجها الذي يوزعه الصفيح في أرجاء البيت ويحتفظ به إلى منتصف الليل في أماسي الصيف.

انتقلنا بعدها إلى منزل إسمنتي، ارتفاع سقفه حوالي الثلاثة أمتار، ميزة هذا السقف أنه تتدلى منه الأضواء مثل الكواكب، وأصبح مصدراً للضوء الذي يمكن إشعاله بضغطة زر على الجدار، بعكس البيوت السابقة التي تتم إضاءتها من فوانيس موضوعة على الأرض، والسقف كان براحاً لظلالنا الطويلة المتراقصة عليه. في البيت الإسمنتي يعزلنا السقف عن صوت الأمطار الشجي، وإن كان لا ينفك يسرب البرد والحرارة إلى أجسادنا، وفوق ذلك يعبر بسخاء عن تجانسه في الارتفاع، لأنه يخفي ميول تصريف المياه فوق السطح .

انتقلت بعدها إلى المدينة حيث سكنت بيتاً إيطالياً قديماً ، سميك الجدران، ويصل ارتفاع سقفه إلى أربعة أمتار. هذا التزايد في ارتفاع السقف عشته موزعاً على سني عمري السابق، وإن كان كل ارتفاع في السقف يصاحبه زيادة في طول القامة، تجعل الهامش دائماً محدوداً، وصرت أهدهد الأرق بقراءة الكتب أو سماع الموسيقى بدل صوت نقر الأمطار، وما أحلم به الآن هو بيت دون سقف يجعلني أنام وفي عيني تترقرق النجوم ، دون ندوب في رأسي ، ودون جدار خامس يرد العيون إلى البلاط.

وحين أفكر الآن في تلك السيرة الحياتية التي امتدت من الكهف إلى بيت خراساني حديث، مكتظ بالأثاث ووسائل التقنية الجديدة؛ من المكيف، إلى التلفزيون القادر على جلب العالم إلى داخل البيت، إلى الكومبيوتر والميكروويف وشبكة المعلومات وغيرها. حين أفكر في كل ذلك أحس أني عشت في عمري هذا تاريخ البشرية كلها، أني عشت قرونا طويلة، فيدغدغني وهم لذيذ من الإحساس بالعراقة وبالخلود.

تسلل الحلم بهذه الرغبة في رفع السقف إلى كتاباتي نفسها التي كانت على مدى عقود تناطح السقف المتاح، ولم يكن من بين هذا السقوف نسيج ناعم كما كانت في بيت الشعر الذي كنا نرفع زواياه برؤوسنا، لكنها سقوف خشنة تركت ندوبها العميقة مع كل نطاح، وفي لحظة تاريخية وجدت نفسي مع حشود غفيرة تثور جماعياً من أجل رفع سقف الوطن الذي يشترك في المفردة نفسها مع البيت في لغات أخرى، واستطاعت تلك الرؤوس المحتشدة في الميادين أن تزيل السقف من أساسه، لنرى السقف السماوي الذي اقترح تحته الإنسان الأول أبجديات صراعاته مع الطبيعة، وكنا نرفع رؤوسنا بزهو لا مثيل له، ولا أحد كان يعرف أنه ممكن أن يكون حتى للسماء جند مدججون يتحدثون باسمها، وسرعان ما أطبقت من جديد حين سيّس البعض السماء نفسها واحتكرها سلطة لجَلْد كل من يتحدث عن أو يتطلع إلى الحرية، أصبحت السماء أكثر قسوة من سقوف الإسمنت وسقوف الكهوف الصخرية وأصبح التطلع إلى أعلى محفوفا بالمخاطر، وتنادى الجمع من جديد لترميم السقف الصخري القديم كي يحميهم من وابل الحجارة الراجمة باسم السماء، ولأن السقف الإسمنتي رُمم على عجل وبفوضوية فسيكون أقل ارتفاعاً وأكثر خشونة وأشد صلابة، وهذا ما يفسر مدى عمق الجروح الجديدة في رأس المواطن الحالم الذي هتفوا له يوما: ارفع راسك فوق.. انت ليبي حر.