Atwasat

البقرفة

سالم العوكلي الأحد 15 يناير 2017, 12:24 مساء
سالم العوكلي

استطاعت عائلتان ميسورتان في قريتي، بداية الستينيات، الحصول على جهاز الراديو، عندما كان وقتها اختراعا سحرياً، جعل البعض يسميه صندوق العجب، والبعض يمنع حريمه الاقتراب منه لأنه يتحدث بصوت رجال!.
إحدى العائلتين، عيت الصاوي، المعروف عنها الانضباط الاجتماعي والصدق والوجاهة، والأخرى، عائلة بوحسن، المشهورة بالكذب والشيطنة وعدم الانضباط.

وأصبح شيوخ القرية ينقسمون بين العائلتين من أجل الاستماع للنشرة الإخبارية التي تذيعها إذاعة البي بي سي بلندن، ثم يلتقون اليوم التالي في سوق القرية ويبدأ نقاش حول تلك الأخبار. اختلف مرة شيخان حول صحة خبر، وحين اشتد الجدال بينهما، تدخل ثالث وسأل الأول المصر على روايته: في أي راديو سمعت الخبر. فرد عليه: في راديو عيت بوحسن. فقال له : لا. خليك منه، راديو عيت بوحسن كذاب. وانتهى الاختلاف عند هذا التدخل. وكان الجميع وقتها يثقون في كل ما يرد في راديو عيت الصاوي، رغم أنهم يتابعون النشرة نفسها على الإذاعة الوحيدة المتوفرة في القرية، لكن هذا الجهاز العجيب كان يتشخصن وينتمي تلقائيا إلى العائلة الحاضنة له فيكتسب سلوكها وطباعها.

فعل الراديو فعله في تلك المجتمعات البدائية الصغيرة، وبقدر ما أصبح مصدر معلوماتها، بقدر ما أثرى قاموسها الشعبي بمصطلحات دارجة تعكس وجهة نظر هذه المجتمعات في هذا الجهاز الصغير وفي وسائط الإعلام بصفة عامة.

من المفردات التي دخلت اللهجة وأصبحت جزءا منها، ومرتبطة بالراديو أو وسائط الإعلام المختلفة، مفردة (اقرنج) التي مازالت تستخدم حتى الآن كمرادف للضوضاء والثرثرة غير المجدية، وهي مفردة جاءت من تحريف لمصطلح (جرينتش) حيث كانت الإذاعة اللندنية تعلن عن الوقت كل رأس ساعة بتوقيت جرينيتش. المفردة الثانية هي (جرنان) ومازالت تستخدم حتى الآن في اللهجة وفي الشعر الشعبي، وهي تحريف لمصطلح (جورنال)، وتعني الحديث المتشابك الطويل دون طائل.

أما المفردة الثالثة فهي (البقرفة) التي تعني كثرة الكلام الصادح والمليء بالأكاذيب، وهي منحوتة من (البقرفون) كتحريف لمصطلح (الميكروفون) ومنها اشتق الفعل يبقرف، ما يعني يتلاعب بالكلام الذي لا مصداقية له، وحين تخبر أحدا مثلا بأن شخصا يتحدث عنه بالسوء، يقول لك: خليه يبقرف. وهو فعل مازال يستخدم بكثرة في مجتمعنا الذي أعيش وسطه. يعكس هذا القاموس وجهة نظر شعبية، تكونت بشكل تلقائي، تجاه وسائل الإعلام الرسمية عموما، بعد أن أدركوا أن هذه الوسائل الثرثارة رغم سحرها لا تقدم معلومة موثوقا فيها أو رأيا يؤخذ على محمل الجد.

ثمة أراء شخصية دون حصر أما الرأي العام فلم يعد له وجود وسط هذه الفوضى في المعلومات والأخبار

حين أشاهد التلفزيون، اليوم، وهو يتابع أحداث المنطقة الساخنة وسريعة الوتيرة، وقنواتنا خصوصا، تحضر لدي هذه المفردات الشعبية (اقرنج + جرنان + بقرفة) لتختزل هذه الحوارات الطويلة وهذه الثرثرة التي تتحول إلى ضوضاء دون أن تقدم معلومة للمشاهد أو للمستمع. وكما يقول أمبرتو إيكو: "غزارة المعلومات تتحول إلى صخب". بمعنى؛ أن هذا العصر الذي يعيش ما يسمى بثورة المعلومات، لا يقدم في الواقع أية معلومة، وإذا ما ظهر خبر صحيح فتشوش عليه 1000 رواية أخرى للخبر نفسه.

وبمثل هذا التلاعب بالمعلومة يُطاح بمفهوم (الرأي العام) الذي كانت تشكله وسائل إعلام رسمية لها خارطة مشتركة لصناعة الخبر أو فبركة المعلومة بما يخدم مصالح السلطة المسيطرة على هذه الوسائط، أما الآن فتستغل مشاعر الناس الأولية إلى أقصى حد من جانب وسائل الإعلام الحديثة، وكلٌ يحاول أن يصدق الخبر أو يتبني الرأي الذي يستجيب لرغبته ويوافق مزاجه، خصوصا وأن الروايات والتحاليل تخدم أمزجة متفاوتة، بل ومتناقضة.

ثمة أراء شخصية دون حصر، أما الرأي العام فلم يعد له وجود وسط هذه الفوضى في المعلومات والأخبار وتحاليل المختصين في المداخلات التلفزيونية الذين يتكررون مرارا لأن أسماءهم في قائمة القناة كضيوف ثابتين ومفضلين لأجندة القناة، ما جعل عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، يسمي شاشة التلفزيون (مرآة نرجس) التي يحب الكثيرون الظهور عليها مراراً وأوقاتا طويلة دون أن يقولوا شيئا في الواقع سوى إشباع نرجسيتهم التلفزيونية، وكل ضيف يتقاضى مبالغ مقابل مداخلاته معروف مسبقاً ماذا سيقول بالنسبة لمديري القناة أو المؤسسة المالكة لها، ويأخذ الصراع بين هذه القنوات منحى آخر غير الحقيقة، وهو منحى الحصول على أكبر درجة إقبال، هذه الدرجة التي أصبحت تقاس كل دقيقة عبر التقنيات الرقمية الجديدة، وهذا التنافس يجعل من الإثارة مقدمة على المصداقية أو الحقيقة، فالمشاهدون بالنسبة لهم ملايين من الأسماك السابحة في محيط الميديا وعلى كل صائد أن يتقن وضع الطعم لتزداد حصيلة صيده، ومن ثم إقبال شركات الإعلان التجارية.

وهذه الآلية هي ما جعلت بيار بورديو يجزم أنه لا وجود في الواقع لوسيلة إعلام مستقلة. لأن ثمة ضغوطا خفية وراء كل وسيط إعلامي. حين أتتبع القنوات العربية التابعة لأنظمة مختلفة في الدول العربية أدرك أن وسائل الإعلام تكتسب تلقائيا صفات وأخلاقيات كل نظام تتبعه وتصبح كأنها لسانه الناطق.

يقول، درويش الحلوجي، مترجم كتاب "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول، لبيير بورديو، في مقدمته لترجمة الكتاب العام 2004 : "مثلا قناتي MBC – ART يهيمن عليهما تحالف كل من الشيخ صالح والشيخ الوليد بن طلال والشيخ الوليد الإبراهيمي، كما أن قناة الجزيرة التي اكتسبت شهرة واسعة لأسباب عديدة لا مجال للدخول في تفاصيلها هنا، أنشأها أحد أمراء الأسرة الحاكمة الذي يشغل في الوقت نفسه منصب وزير الخارجية في حكومة هذه الدولة، والمجال لا يسمح هنا بمزيد من الاستطراد حول مجموعات المستشارين والصحفيين ومقدمي البرامج، بل وعن البرامج الحقيقية التي تقدم بشكل زائف والبرامج الزائفة التي تقدم بشكل حقيقي في كل هذه القنوات. يمكن للقارئ الذي تؤرقه مثل هذه القضايا أن يطبق المنهج وتقنيات البحث التي يستخدمها بورديو في هذا الكتاب على شبكات التلفزيون العربية وسيكتشف إلى أي حد سيصل إلى نتائج أكثر من مذهلة".

لا فارق هنا من ناحية تقمص الوسيلة الإعلامية لطباع المالك لها، بين هذه العائلات التي تملك شبكات إعلامية ضخمة وبين العائلتين في قريتي قبل 60 عاما، سوى أن الأولى تسيطر على وسائل البث والثانية على وسيلة الاستقبال، لكن حقيقة انتماء الوسيلة العضوي للعائلة الحاضنة تنطبق في الحالتين.