Atwasat

نـاصـر الرومنطيقية اللـيـبـية

نورالدين خليفة النمر الأحد 24 سبتمبر 2017, 10:53 صباحا
نورالدين خليفة النمر

الوثائق كمعركة تأريخ ليست فقط محنة العالم المتخلّف. عالمنا فحسب، بل إنها موضع سجال ساخن حتى بالديمقراطيات الأوروبية المعاصرة، ومثالها "ألمانيا" البلد الذي تربطني علاقة معرفية به تمتد منذ ربع قرن، تخلّلتها علاقة بأستاذ علم الاجتماع في "جامعة أولندبورغ" برودوش آيش الذي خاض معركة وصلت إلى محكمة الولاية في "النيدرزاكسن" تخّص الكشف عن وثائق متعلقة بنظام الكومونات الألماني وانتخاباته، مجال اختصاصه في ألمانيا التي أتاها شابأّ من الهند عام مولدي 1955.

توطئتي بخصوص معركة الوثائق تعلّة لمدخلي في النقاش الذي افتتحه الأُستاذ المرموق في تاريخ تكوّن دولة ليبيا الحديثة 1951 صلاح الدين حسن السوري في منشوره بصفحته على الفيس بوك 14 سبتمبر2017 "محكمة الشعب كمصدر لدراسة الحقبة الملكية". ومقاله عن محكمة الشعب الثورية أكتوبر 1971أثار في نفسي تذكار أول مسرحية هزلية يتسنى لي مشاهدتها إبن الـ15 عاما مع أبي على شاشة تلفزيوننا الأبيض والأسود المشترى حديثاً ظنّاً منّا أن لايصيبنا حرج من رؤيتها معاً، ولكنه آصابنا عندما ذكر أحد الشهود بتشجيع من القاضي كلمة نابية تم التلفظ بها في تحقيقات البوليس من أحد مسؤولي العهد الملكي في محنة تزييف الانتخابات البرلمانية الأولى فبراير 1952.

الوثائق كمعركة تأريخ ليست فقط محنة العالم المتخلّف. عالمنا فحسب، بل إنها موضع سجال ساخن حتى بالديمقراطيات الأوروبية المعاصرة

في افتتاح جلسة البداية نبّه قاضي محكمة الشعب العضؤ في مجلس الانقلاب إلى طبيعة المحكمة الاستثنائية كتناولها بعض القضايا، رغم سقوطها بالتقادم، وتطبيقها القانون بأثر رجعي، والتوسع في توجيه الاتهامات لمسؤولي العهد الملكي لمحاكمتهم ومحاكمته. أبي الذي كان أميّاً وناصرياً عاطفياً واعياً بما يدور حوله حتى النخاع تضاربت مشاعره إزاء محاكمة رجالات العهد الملكي الذين عرف بعضهم شخصياً وفي مواقف محرجة لهم كونه صاحب تاكسي محطتا وقوفها فندقا ليبيا بلاس والودان الذي اشتهر بملهاه ومرقصه نقطة جذب المثاقفة بين النخبة الليبية المتعلّمة والمظاهر الكوزموبوليتية التي ابتعثها وجود قاعدة "ويلس" العسكرية على تخوم طرابلس واستقطابها للعمالة الليبية، وبعده ظهورالبترول الذي انخرطت الشركات الأميركية في اكتشافه وشراكة ترويجه وتصديره في العالم .

أما أنا، الفتى الطُلعة المنشغف بالرومنطيقية بمسحوق الناصرية المخّفف بالشك، فكانت المسرحية أشبه بمعالم الكوميديا الشكسبيرية "حُلم ليلة صيف" لم أعِ منها، رغم عون أبي، إلا القليل. الكثير الهزلي الذي يخصّها تفهمته بعد ذلك بست سنوات عندما قرأت في المركز الثقافي التونسي بطرابلس كتاب أستاذ التاريخ النابه الذي كتب في تاريخ تكون الدولة الليبية الحديثة العراقي مجيد خدوري كتابه الثاني عن "العراق الجمهوري" الذي كتب فيه فصلاً شائقا عن "محاكمات المهداوي" عضو الانقلاب العسكري على الملكية في العراق، وأنا أقرأ أيقنت المقولة المأخوذة عن الفيلسوف نيتشة تجاوزاً أن التاريخ يعيد أو يكرّر نفسه في ليبيا التكرار.
لاحظ التقرير السرّي الذي بعثت به السفارة الأمريكية إلى واشنطن حول المحاكمة بتاريخ 7/9/1972 ويحمل الرقم الإشارى A/137 أن اهتمام الجمهور الليبى بوقائع المحاكمة بدا باهتاً كما أن حضور المواطنين إلى قاعة المحكمة لمتابعة القضية كان هزيلاً وأقل مما توقّعه الانقلابيون "إلاّ أن شاشة التلفزيون التي بدأت تتسلّل إلى البيوت والمقاهي، وحتى دكاكين البقالة على النواصي هي التي نقلت وقائع مسرحية المحاكمة الفارقة التي اختلط فيها الجّد بالهزل.

من مقتطف ورد في صفحاته من تاريخ النظام الانقلابي في ليبيا ينّبه السياسي والكاتب الليبي محمد المقريف عن فصل جاد من فصول المسرحية الهزلية مُشيراً إلى محاكمة رئيس الوزراء 1965ـ1967 حسين مازق التي شدّت اهتمام الليبين النابهين حيث طغت شجاعته على جو المحاكمة، التى ارتدت لأول مرة ثوبا من الوقار امتزج بالإعجاب والتقدير حيث أثبت بحق أنه "رجل دولة" من طراز نادر، وفشلت كافة محاولات المحكمة ومعها الإدعاء العام للنيل من سيرته أثناء توليه الحكومة في الحقبة الملكية محط الاتهام. وعندما سأله رئيس المحكمة عن السياسة التى اتبعها لإنهاء القواعد الأجنبية خلال تولّيه رئاسة الوزارة جاء رده: "إنه كان رئيساً للوفد الليبى فى مفاوضات الجلاء، وإن موقفه كان متصلبا وملحاً بضرورة التعجيل به، وإن مظاهرات 1967 ومطالب الشعب الليبى بالجلاء وتصفية القواعد الأجنبية ساعدته على اتخاذ موقف صارم متشدد مما أجبر أمريكا على الاتصال بالرئيس جمال عبد الناصر، باثته شكواها من المنعطف الراديكالي الليبي الحاسم شعباً وحكومة من الموقف الذي تبنته وأظهرته لصالح إسرائيل في الحرب العربية ـ الإسرائيلية التي أدّت إلى الهزيمة العربية الفادحة عام 1967.

لم ترد إشارة بخصوص هذه القضية في منشور الباحث أستاذ التاريخ صلاح الدين السوري، لكن الجامعي عميد كليّة الآداب 74 ـ 1976 الأستاذ المرموق محمد دغيم هو من آثار في تعقيبه حادثة تراجع الرئيس جمال عبد الناصرعن مطالبته بإلغاء القواعد الأجنبية في ليبيا وبخاصة القاعدة الأمريكية بناء علي طلب الأمريكان منه حسب ما رواه له رئيس الحكومة حسين مازق الذي تحدث معه الرئيس عبد الناصر حول هذا الموضوع المثير للتساؤلات والشكوك.

هذا التعقيب النابه أشعل في ذاكرة الباحث صلاح الدين السوري مصباح ديوجين فذكر أنه لم تفته متابعة هذه النقطة المُثيرة بتفاصيلها وتذكر أنه عندما كان رئيس الحكومة الملكية يُساءل من قبل رئيس المحكمة، عن تأخير مفاوضات إلغاء المعاهدات وإيقافها، كان الوزير الأوّل في كل مرة يرد أن "حلقة في هذا الموضوع..." فيقاطعه رئيس محكمة الشعب بتغيير الحديث، فيعود المسؤول إلى الموضوع من جديد وأخيرا انفعل عضو الانقلاب رئيس المحكمة بشدة، و قال له "سبحان الله، جمال عبد الناصر راجل متوفى، ما اتخليناش عاد انجيبوه اهنى واندينوه في محكمة.. عبد الناصر نادى بالقومية وطرد الاستعمار و انتم شنو درتو "(ماذا فعلتم). رد المتهم رئيس الحكومة "نحنا ما قلناش شيء، عبد الناصر كان ينصح فينا لصالحنا".

محمد دغيم يكمل تعليقه بومضة أخرى دالّة بأن الوزير الأوّل مازق، باح له بأنه وهو يتهيأ لمقابلة الرئيس عبد الناصر سأل مرافقه السفير الليبي محمود الخوجة وكأنه حدس بما سيطلبه منه الرئيس المصري، أن يكون شاهده عن تغيّر موقف عبد الناصر من المطالبة بجلاء القوات الأمريكية من ليبيا، وهو ماحدث. فكان مثار استغراب السفير. في محكمة الشعب الهزلية، منع ـ حسب رواية مازق لدغيم ـ قاضي المحكمة الوزير الأوّل من سرد خفايا مباحثاته مع عبد الناصر عام 1967، بل هدّده في حالة استرساله أنه سيوقف التسجيل، بل سيوقف الجلسة نفسها.

الرومنطقية الليبية الموازية للمصرية التي نجني ثمارها المسمومة من عام نكبة فلسطين 1948 حتى يومنا المشؤوم في عام 2017 تكمن في "النصيحة لصالحنا"

حتى منتصف عام 2017 فيما أثيرفي الصحافة والفضائيات المصرية عن عضوية الرئيس عبد الناصر في التنظيم السري لجماعة الأخوان المسلمين ماقبل انقلابه عام 1952، وتسمية قاعدة عسكرية في صحراء غرب مصر على اسم غريمه الرئيس محمد نجيب الذي سبقه في الحكم بعد إسقاط الملكية، ومنذ أحداث مايو 1971 التي أطلق عليها الرئيس أنور السادات اسم ثورة التصحيح وعنى بها عملية تنقيحه لمؤسسة السلطة في مصر وإزاحته للناصريين اليساريين. ما انفكت الرومنطقية المصرية المؤسسة على كريزما عبد الناصر تدافع عن نفسها وعن تاريخ زعيمها إزاء ماتظنّه ارتداداً، وتهجّماً، وطعناً في تاريخ المبدئيات التحرّرية والراديكالية إزاء الاستعمار، والرسمالية الإقطاعية، والإمبريالية.

الرومنطقية الليبية الموازية للمصرية التي نجني ثمارها المسمومة من عام نكبة فلسطين 1948 حتى يومنا المشؤوم في عام 2017 تكمن في "النصيحة لصالحنا" الجملة، المنفذ للهشاشة السياسية الليبية المستصغرة شأنها إزاء الأخ الأكبر البكباشي جمال عبد الناصر ومستنسخاته من رفاقه الضباط الأحرار الذين أدخلوا منذ يوليو عام 1952، مصر وليبيا والأمة العربية في نفق العسكرتيريات، والراديكاليات، والشعبويات الواهمة بتنوّعاتها من القومجيات التي أعلنت غروبها عام 1967 هزيمة الجيوش العربية التقليدية أمام حداثة جيش إسرائيل إلى الإسلامويات السلفية التي ربما سيعلن أُفولها غروب تنظيم الدولة الموهومة "داعش" الذي تبدو ملامحه في النافذة المفتوحة على الأفق الذي تلمع في ظلامه، وإن بخفوت، نجمة اللبيرالية العلمانية الـ secularisation بالمعنى الأنجلوساكسوني وليس مقابله الفرنسي laïcité الذي ضلل الإسلاميون من نهضوييهم جمال الدين الأفغاني، وسلالته العروبية، إلى السلفيين داعش وآيات الله الشيعة والمداخلة نابشي القبور.