Atwasat

في رثاء الشهم: عبد الله صالح العوامي

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 25 ديسمبر 2016, 09:09 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

للصداقة عندي مكانة عالية، وقيمة كبيرة، وعاطفة حارة. لي أصدقاء أعتبر نفسي محظوظا بتلاقي دروبنا في مسيرة الحياة وانتساج روابط صداقة حيوية بيننا. مرة قالت لي فتاة صديقة أنه يهمها أن يكون زوجها المحتمل محترما بين أصدقائه. وأنا أحظى لدى أصدقائي بهذه المكانة. فأنا وأصدقائي نتقاسم قدرا عاليا من الاحترام والتقدير، وحتى التوقير، وهم يشكلون جزءا من كياني. بالذات أولئك الذين عاشت صداقتنا عقودا مديدة. لو كان ممكنا أن يسترد أصدقائي لبناتهم التي ساهموا بها، غالبا دون دراية، في بنية كياني لبقي كياني أطلالا وبقيت روحي فقيرة.

أقول هذا بمناسبة الخبر الذي أطبق عليَّ هذا الصباح (الاثنين 19. 12. 2016) الحامل لنعي صديقي العزيز الرائع، المتميز: عبد الله صالح العوامي. فاغرورقت عيناي، أنا الذي لم أبك عند تلقيَّ خبر وفاة أبي ونحن في انتظار إتمام إجراءات خروجنا من السجن، ولم أبك عند وفاة أمي بحضوري.

عن صديقي عبد الله صالح العوامي، أريد أن أتحدث.

التقينا بجامعة بنغازي في النصف الثاني من عقد سبعينيات القرن الماضي. لم أعد الآن متأكدا من السنة. كنت بقسم الفلسفة وكان بقسم اللغة الإنغليزية.

تعارفنا عبر صديق مشترك. بمجرد جلوسنا إلى منضدة في مقهى كلية الآداب بادرني بالمزاح. وأنا أحب من يبادرني بالمزاح حتى دون سابق معرفة، ما دام المزاح ليس نابعا من روح عدوانية، وإلا فإنه ينقلب إلى تهكم وسخرية. أن يبادرني شخص بالمزاح في أول لقاء لنا يعني أنه استلطفني منذ الانطباع الأول ويعني أنه شخص يتحلى بروح الدعابة وحضور البديهة. وأنا أحب هذا النوع من الأشخاص، لما يتميزون به من ذكاء ونباهة. ومنذ البداية أعطاني انطباعا بأنه يفيض حيوية وطموحا وشهوة موارة للانغماس في ملاذ الحياة ومتعها.

مع تواصلنا بان لي طموحه المعرفي وسعيه إلى تطوير ثقافته وتعميقها، وإخلاصه للمباديء الإنسانية العامة، وتحرره العقلي وحبه للتفكير المستقل وإخلاصه للأصدقاء. وكان، من جهة أخرى، متوقد العاطفة شديد الانفعال. إذا كان انطباعه الأول عن شخص ما سلبيا لا يخفي ذلك ويظل متحفزا إزاءه مدى الحياة!. وإذا كان انطباعه إيجابيا يُظهر ذلك ومن الصعب أن يعدل عنه.

ربطت بيننا علاقة مودة عميقة وألفة مريحة، كانت سببا في متاعبه وتغيير مجرى حياته في انعطافة حادة سلبية بعد اعتقالنا. إذ أخذه أفراد من اللجان الثورية من الجامعة عنوة وخرجوا به إلى منطقة خلاء وطلبوا منه أن يكتب تقريرا عني وعن صديقنا المشترك علي الرحيبي يقول فيه أننا نعمل ضمن تنظيم ماركسي. وحين رفض قائلا أنه لا يعرف عنا ذلك ضربوه بالعصي وأعادوا الطلب منه ثانية. قال أنهم أعطوه ورقة وقلما وهو جالس على صخرة، أو جذع شجرة مقطوع، كي يكتب تقريره، فكان الدم يقطر من وجهه على الورقة. قال أنه كتب بأنه لا يعرف شيئا مما يتحدثون عنه. فقالوا له: اختر واحدا من اثنين: إما أن تكون شاهدا أو متهما. فرد عليهم بأنه، في هذه الحالة، يفضل أن يكون متهما.

بقي معنا في السجن (سجن الجديدة) سنة وخمسة أشهر وخرج بعد أن صدر حكم لصالحه، مع خمسة متهمين آخرين، بالبراءة.

طوال فترة وجودنا معا في السجن لم يُبدِ يوما إحساسا بأنني مسؤول بيكيفة ما على مصيبته، أو أنه نادم على انعقاد العلاقة بيننا لأنها أفضت إلى ما أفضت إليه. أخبرني أنه عندما زاره أبوه وأمه في السجن أول مرة أخبرهما بسبب سجنه، فما كان منهما إلا أن امتدحا موقفه وأكبرا فيه شهامته.