Atwasat

ركن العامرية.. حديث فوق السحاب

فدوى بن عامر الأربعاء 21 ديسمبر 2016, 11:06 صباحا
فدوى بن عامر

عندما يسيطر فكر على العقل الجمعي في مجتمع ما يكون من الصعوبة تغييره، حتى على من كان حظه من التعليم وافراً ووفيراً، وذلك لتمكّن هذا الفكر على كل الجوارح وتغلغله في كل جنبات النفس، ويتطلب إبداله بغيره اتخاذ خطوات أصفها بالملحمية للمجهود الذهني الاستثنائي المتعين بذله في سبيل ذلك.

الشهر الماضي، في رحلتي الأخيرة إلى قاهرة المعز، دخلتُ الطائرة، وضعتُ حقيبتي في المكان المخصص لها واستأذنت من كان جالسًا بجانبي بإيماءاة وجلستُ، وتطلعتُ من النافذة كالعادة صوب السماء محدثة نفسي بأشياء بهيجة عديدة.

قاطع مهجتي محدثني بالانجليزية "من أين أنتِ.. أنتِ لستِ مصرية!" أجبت "لستُ مصرية، أنا من ليبيا". فرد "لبنان!". "لا. ليبية"، وعندها حدثني بالعربية فكان الرجل الخمسيني من أرض الكنانة.

قال "الدكتور فلان الفلاني، أخصائي كذا"، متبعة خطاه عرّفته بنفسي و طبيعة عملي. فاستفسر عن تخصصي فأجبته "رياضيات"، فقال بلهجة دفاعية "والله أنا كنت شاطر أوي في الرياضيات"، فاجبته مطمئنة أنني لا أشك في كلامه أبدًا وإلا لما أصبح طبيبًا وتذكرتُ حينها رد أستاذتي على سؤالي عندما كنتُ طالبة في الجامعة، لما تخصصت في الرياضيات فأجابت بابتسامة لها مئة مغزى: "حتى يظن الناس أنني ذكية جدًا"!

تجاذبتُ وجاري فوق السحاب أطراف الحديث، ثم فاجأني قائلًا "في حاجة محيراني لو سمحتِ لي.. أنا مستغرب أن ست زي حضرتك درست رياضيات". أبديتُ استغرابًا مصطنعًا وكلام أستاذتي يدور في رأسي ويرّن في أذني، فأردف موضحًا أن مجال الرياضيات لا يصلح للنساء لصعوبته، "يعني مش صعب شوية على الستات"!، وكأني به يقول "لم تُخلْق النساء لهذا وأنتِ تتعبين نفسكِ بكل هذا"، فأجبته "وهل تحتاج الرياضيات لأكثر من قوة ذهنية رياضية ينعم القادر بها على من شاء من النساء والرجال، أما القوة العضلية فهي للذكورللقيام بأعمال أخرى كالصيد مثلًا".

لم يظهر عليه الاقتناع أو ربما تظاهر، فأسرعتُ بالقول مازحة "أعمل ايه؟ دا نصيبي"، وفتحتُ كتابي في محاولة للقراءة فقال "برافو عليك أنتِ لسة تقري كتب مش على الآي باد؟. ايه الكتاب دا كتاب رياضيات؟"، فأجبته مازحة بجدية أنه وعلى غير غرار غيري فلدي اهتمامات أخرى كثيرة جدًا خلاف عملي. فلم يعلق.!

ثم تشعب الحديث قليلًا منتقدًا رجال الدين وفوضى الفتاوى مثل رضاع الكبير وغيرها، وعندها كان لزامًا علّي القول "هو الرجل الشيخ من أمثال صاحب فتوى الرضاع يعمل إيه يا دكتور.. هو يا دوب حصَّل درجة النجاح في الثانوية العامة، ومفيش كلية حتقبله إلا كليات الشريعة فتخرّج منها وبقى شيخ قد الدنيا يخطب أمام المئات بل الآلاف من الأطباء والمهندسين والمحامين والمستشارين والقضاة والأساتذة وغيرهم. يحكي لهم قصص رضاع الكبير وخوارق كثيرة والجميع يسمع، والكثير منهم يستمع والطير على الرؤوس والصقور منتصبة على الشوارب. هؤلاء رجال اليوم أما نساء الأمس فقد كانت امرأة صاحبة ذهن متّقد وقلب متيّقظ من وقفت للخليفة العمري فأوقفته وهو على المنبر من إصدار فتوى يُحدّ بها مهر المرأة. صحيح يا دكتور و لا أنا غلطانة!؟".

حدّق الدكتور في قلب عيني فرأيتُ الدهش يدور في رأسه وقال "عندك حق .. تعرفي ما خطرشي على بالي يوم كلامك ده".

ابتسمتُ ومازحته قائلة "ممكن لأنه لم يصادف أن تحدثت مع استازة رياضيات من قبل!".
فقال بطيبة ظاهرة وأظنها باطنة "معاكِ حق.. معاكِ حق والله"... وأرجع كرسيه و غطّ في نوم عميق وأكملتُ كتابي وأنا فوق السحاب، الذي لم يكتف بنقل جسدي بل روحي أيضًا ولم أدر إلا به يقول "ألف حمد لله على السلامة أستازة.. أهلًا بك في أم الدنيا". وليس هناك بلد أهل لهذا الاسم غير أرض الكنانه العريقة.