Atwasat

الانقسام والتعدد

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 11 ديسمبر 2016, 11:10 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

كانت الديانة الوثنية منتشرة في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، وكان لكل قبيلة آلهتها في ذلك المجتمع القبلي التناحري الانقسامي، لكن كان ثمة، رغم الانقسام والتناحر، نوع من عقد التفاهمات والتنسيق بين "شظايا" هذا المجتمع من خلال الاتفاق على "حياد مكة"، إذا جاز التعبير، وجعل كعبتها مَجْمعا لآلهة القبائل، والاتفاق على أشهر حرم تمثل هدنة يتوقف فيها الاحتراب. وهذا جعل من مكة مركزا دينيا وتجاريا وثقافيا.

كانت هناك، إذن، تعددية دينية معترف بها ومحترمة، ولم يكن ثمة مسعى إلى أن تسوِّد قبيلة آلهتها على القبائل الأخرى. بمعنى أنه كان ثمة حرية دينية على مستوى القبائل، وحتى داخل القبيلة نفسها. فلم نسمع أنه تم التعرض للذين عرفوا بالحنفاء، أو من عرفوا بالحمس، وكانوا توحيديين.

وهنا نفتح قوسين لنثير تساؤلا، وهو: لماذا، إذن، تصدت قريش للدعوة المحمدية وعارضت الإسلام بعنف؟

والجواب هو أن التوجهات التوحيدية في المنطقة، من غير اليهودية والمسيحية، كانت تبنيا فرديا ومسلكا روحيا وأخلاقيا لم يكن يستهدف، على الأقل في الأفق المعلن والمنظور، تقويض أركان المجتمع. أما الإسلام فكان يهدف إلى إحداث ثورة اجتماعية تعيد تشكيل بنى وتراتبية المجتمع العربي قبل الإسلام.

لكن القبيلة كانت، بشكل عام، مؤسسة اجتماعية ذات قشرة صلبة تصادر حرية الفرد وتمنعه من التعبير عن نفسه خارج تقاليد القبيلة وأعرافها وأن يتصرف كذات مستقلة. ولعل الاستثناء الوحيد ما كان يمنح للشعراء من هامش للتعبير عن ذواتهم الفردة. إذ يفسر البعض ظاهرة ابتداء القصيدة العربية قبل الإسلام، في ما عرف بعمود الشعر، بالغزل الذي يتغزل فيه الشاعر بحبيبته وباسمها الصريح، والفخر بفروسيته ومناقبه، بأنه تسامح من القبيلة إزاء الشاعر باعتباره ذاتا فردة، كي يكرس نفسه للإعلاء من شأن القبيلة شعريا في باقي القصيدة. فبداية القصيدة تكون "لسان حال" الشاعر، وبقيتها تمثل "لسان حال" القبيلة. بداية القصيدة تمثل "أجرا مدفوعا سلفا" للشاعر مقابل الخدمة التي سيؤديها للقبيلة.

أما الأديان التوحيدية فترفض التعدد وتسعى، ما وسعها الجهد، إلى فرض صوت واحد وحيد يسود في مجال العقيدة والعبادة ومناحي الحياة كافة، بما في ذلك الفنون وفي مقدمتها، في الحالة العربية، الشعر.

بيد أن الانقسام قانون طبيعي في مجال الحياة الاجتماعية والدينية على السواء. فسرعان ما تنقسم هذه الأديان على نفسها في طوائف وفرق ومذاهب. حدث ذلك في اليهودية والمسيحية، ثم الإسلام. وتكون أسباب الانقسام اجتماعية وسياسية، في البداية، ثم يُنسج لها غطاء ديني يبررها ويعطيها بعدا مقدسا.

ففي التاريخ الإسلامي هناك من يعزو بداية الانقسام، أو التعبير عنه، إلى الساعات الأولى التالية لوفاة الرسول، من خلال ما حدث في سقيفة بني ساعدة من خلاف بين المهاجرين والأنصار، وبالتالي بين مكة والمدينة، أو بين قريش من جهة، والأوس والخزرج من جهة أخرى. كان الخلاف حول توزيع مناصب الدولة بعد وفاة الرسول وكان الحوار الذي دار في ذلك اللقاء حوارا سياسيا لم يتم اللجوء فيه إلى الاستنجاد بنصوص دينية.

وبغض النظر عما عرف بـ "حروب الردة" فإن الانقسام الواضح في تاريخ الإسلام تمثل في ثورة الأقاليم التي أسفر عنها مقتل عثمان (53هـ) وكانت أسباب الثورة تحولات اقتصادية واجتماعية لا علاقة لها بالدين.

مقتل عثمان أفضى إلى ما عرف بالفتنة الكبرى التي ظهر فيها الخوارج كأول فريق سياسي مؤدلج، إذا جاز التعبير، في الإسلام، وقادت التطورات اللاحقة إلى تبلور ثلاثة تيارات سياسية هي: الخوارج، أنصار علي، أنصار معاوية، وسرعان ما تحولت هذه التيارات السياسية إلى طوائف دينية هي: الخوارج، الشيعة، السنة. وهذه الطوائف انقسمت بدورها إلى فرق ومذاهب.

وإذن، فقد أثبتت المسارات التاريخية أن محاولة فرض صوت واحد وحيد، جامع مانع، يوجه التفكير والسلوك ومناحي الحياة كافة، هي محاولة لا يحالفها النجاح طويلا.

نريد أن نختم هذا المقال بالتفريق بين المجتمع الانقسامي والمجتمع التعددي. فالمجتمع الانقسامي يكون مجتمعا متشظيا منقسما على نفسه تميل مكوناته إلى التناحر. وحتى لو وجدت سلطة قوية نافذة لاحمة لهذه الشظايا فإن النزوع إلى التناحر يظل كامنا ليعود عند زوال هذه السلطة لأي سبب. أما المجتمع التعددي فتعدده قائم ضمن إطار وحدته وتحل الخلافات بين أجزائه المكونة سلميا، وليس تناحريا. أي أنها تحل ديموقراطيا. وهنا يمكن الاستدلال على ذلك بما حصل في دول أوروبا الشرقية على أثر سقوط الأنظمة الشمولية هناك، مقارنة بما هو سار الآن في ليبيا وسوريا واليمن. إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن المجتمعات التعددية لا تولد هكذا منذ البداية، وإنما تمر بصيرورة تاريخية تجعلها تتحول، عبر عمليات مد وجزر، من مجتمعات انقسامية إلى مجتمعات تعددية.