Atwasat

زراعة الموت والمحصول وافر

سالم العوكلي الأحد 27 نوفمبر 2016, 11:24 صباحا
سالم العوكلي

صناعة الموت برنامج تبثه قناة العربية حول تكنيكات الإرهاب وخططه لنشر الموت، لكن ليس أخطر من هذه الصناعة سوى زراعة الموت، لأنه في هذه الحالة يبقى إرهابه فترة طويلة وحتى بعد أن ينتهي الإرهابيون أنفسهم. بعد أن كانت ليبيا مسرحا لجزء من الحرب العالمية، وبعد نهاية هذه الحرب، لم تتوقف تداعيات ذلك الصراع، وأصبح صوت الانفجارات مستمرا في أرضنا حين كانت الدول المحركة لتلك الحرب تعود من جديد إلى صالات الاستماع إلى موسيقى بيتهوفن ومودزار.

تقدر الأمم المتحدة أن عدد الألغام التي تركتها الحرب العالمية في ليبيا يقدر بحوالي 3 مليون لغم (بمعدل 3 ألغام لكل مواطن آنذاك، أو لغم لكل مولود جديد على مدى عقود). زُرع أغلبها في الفترة ما بين 1940 - 1943 من قبل الإيطاليين والألمان والإنجليز خلال معارك الحرب العالمية الثانية في شرق ليبيا، ويوجد الجزء الأعظم من الألغام على طول الحدود الليبية الشرقية، وتعتبر مشكلة الألغام من أهم معوقات التنمية البشرية. و قد حاولت الحكومات الليبية المتعاقبة منذ الاستقلال إزالة الألغام لكن أغلب محاولاتها باءت بالفشل نتيجة لاتساع رقعة الأرض، وعشوائية زراعة الألغام، وتهرب الدول التي زرعتها من تسليم الخرائط والاعتراف بمسؤولياتها عن إزالة الألغام.

وعلى مدى عقود طويلة كانت الأرض والرمال تتفجر تحت أقدام سكان الصحراء والدواخل جراء الألغام التي زرعها الصراع بين الإمبريالية والفاشية على هذه الأرض التي لا علاقة لها بهذا الصراع. . ومن نجا من الموت عاش بعاهة أو إعاقة، والسبب دائما انفجار (تربان) وهي التسمية الشعبية للألغام التي تعايش معها الناس وكأنها كارثة من صنع الطبيعة مثل الصواعق أو لدغات الأفاعي. تسبب فضول السكان، خصوصا تجاه المعدن و كل ما يلمع، أو في فترة تجارة النحاس، تسبب في كوارث كان يطويها النسيان دائما، لكن ربما ما يحسب للنظام السابق اهتمامه الشديد بمسألتين: ضحايا ألغام الحرب العالمية الثانية، والمنفيين الليبيين، ولم تهدأ هذه الملفات طيلة العقود الماضية، ربما بسبب الإفراط الثوري الذي اتسم به النظام، أو الهوس بمشاكسة الغرب واللعب بالأوراق. لكن في النهاية أصبح التجول في الصحراء القريبة من الحدود محفوفا بالخطر، والبحث عن الترفاس أو الصيد أو الرعي يعني أحيانا أن تهتز بك الأرض وتتحول إلى أشلاء.

هذه ألغام زرعتها حرب ضروس جعلت من العالم ميدانها، ولم تلتفت تلك القوى بعد نهاية الحرب إلى ما تركته خلفها واهتمت بتنظيف أوطانها فقط من أثار الحرب، وأصبحت الطريقة الوحيدة لنزع الألغام من أرضنا هي عبر أشلاء الأجساد البشرية مباشرة، وكل لغم تتم إزالته بضحية أو أكثر.

المنظمات الحقوقية ومنظمة العفو الدولية تتناسى هذه الكارثة الإنسانية وتركز كل جهودها على عشرات المدنيين الذين يتنقلون مع الإرهابيين داخل قنفودة

تلك ألغام طواها الصدأ والتاريخ، والآن مدننا وضواحيها تزرع بألغام ذكية وجديدة ومقاومة للزمن، وتأثيرها التدميري أضعاف الألغام التقليدية التي زرعت أثناء الحرب العالمية الثانية. هذه الألغام التي زرعت حتى داخل البيوت وفي المطابخ لن تنتظر شخصا فضوليا يذهب إلى الصحراء بحثا عن الترفاس أو طيور الحبارة و ملاحقة قطعانه، بل ستصطاد طفلا ذاهبا إلى مدرسته وسط المدينة، أو سيدة تعد وجبة غداء لأسرتها، أو فلاحا يحرث مزرعته، وهذه المرة تكتسب الألغام الفضول والتطفل، وليس الضحايا، لأنها موجودة بين الجار وجاره والتلميذ ومدرسته. ليست حربا عالمية ما زرعت هذه الألغام بعشوائية وطرق ذكية وخادعة داخل المدن وحولها، لكنهم ليبيون استعانوا بخبرات إرهابية جاءت من دول قريبة وبعيدة، والبعض منهم من المدينة نفسها، وقد يكون أقرب الأقربين إليه ضحايا لها. ليس هذا فحسب بل إن سلطات في طرابلس المختطفة، ودار الإفتاء ورئيسها مفتي الديار، وقنوات فضائية تابعة لهم، مازالت تعتبر من يزرعون هذه الألغام حول المدارس وفي المزارع وفي الجامعات وداخل بيوت المواطنين، يعتبرونهم ثوارا يدافعون عن ثورة فبراير ضد أعداء الثورة.

يرد في تقرير بعثة الأمم المتحدة للعام 2013 ما يلي:"واصلت البعثة العمل مع السلطات الليبية بشأن بناء المؤسسات في وقت مبكر في مجالات إدارة الذخائر، وتحديد الأسلحة والمساعدة الإنسانية في مكافحة الألغام عن طريق دعم الجهود الليبية الرامية إلى إنشاء لجان مشتركة بين الوزارات، ووضع أطر ومقاييس معيارية. وللمساعدة على تعزيز الهيكل الأمني الليبي وضمان امتثال ليبيا للمعايير الدولية لمكافحة الألغام، قدمت البعثة الدعم التقني والتنفيذي إلى وزارتي الدفاع والداخلية، فنسقت التدريبات المتعلقة بإدارة الذخائر والتخلص من الأسلحة الكيميائية ومن الذخائر المتفجرة، والتدريبات المتعلقة بمعدات الكشف الميكانيكية.".

ووزارة الدفاع المعنية في التقرير هي الوزارة التي كان وكيلها الإرهابي خالد الشريف، ومن ميزانية هذه الوزارة، استورد الحقائب المتفجرة والألغام الأرضية في صفقة معروفة وموثقة، ولم يستورد جهاز كشف واحدا عن الألغام، وتم كل هذا على مرأى من بعثة الأمم المتحدة التي لم تحرك ساكنا ولم تف بأي وعد.

المسألة خطيرة جدا، وإحصائيات ذوي الاحتياجات الخاصة تزداد يوميا، وحقائب التلاميذ مهددة بان تتحول إلى أشلاء على مدى زمني طويل، والمزارع أصبحت حقولا للموت، ولا ثمة اهتمام أبدا من قبل المجتمع الدولي الذي دعم هذه الجماعات تحت إدعاء أنها تمثل الإسلام المعتدل، ولا اهتمام من مبعوثي منظمة الأمم المتحدة المتعاقبين، وكأن الألغام تعود لتكون كارثة طبيعية يختص بها التراب الليبي.

المنظمات الحقوقية، ومنظمة العفو الدولية، تتناسى هذه الكارثة الإنسانية، وتركز كل جهودها على عشرات المدنيين الذين يتنقلون مع الإرهابيين داخل قنفودة، لأن هذا الأمر يحرج الجيش الوطني الليبي الذي تعمل كتائب الهندسة التابعة له ليلا ونهارا على نزع هذه الألغام من تحت أقدامنا وأقدام الأجيال القادمة. وكم دفعت من ضحايا من خبراتها الذين تناثرت أشلاؤهم وهم يلاحقون كمائن الموت المزروعة عشوائيا والتي لا خرائط لها، والمعدلة بشكل يجعل التربان هو الذي يبحث عنك وليس العكس.