Atwasat

اللامركزية في مشروع الدستور

الهادي بوحمرة الخميس 24 نوفمبر 2016, 08:40 مساء
الهادي بوحمرة

نهج مشروع الدستور الليبي نهج الدساتير الحديثة في دسترة اللامركزية الإدارية في إطار وحدة الدولة، باعتبارها أحد أهم مبادئ الحكم الرشيد(1). فهي الإطار الدستوري للديمقراطية المحلية وللتنمية الشاملة والمتوازنة. ومن خلالها تتم بلورة استراتيجيات للتنمية الاجتماعية والاقتصادية وتقنين الموارد والطاقات المحلية وتحقيق الاستقرار وترسيخ الديمقراطية، بالنظر إلي ما تهدف إليه من حد من سياسة البيروقراطية الإدارية، ومن رفع في مستوى الخدمات، وتسهيل وتسريع اتخاذ القرار، وتعزيز مكانة الوحدات المحلية في الاقتصاد(2). وقد قام نظام اللامركزية، الذي صمم بناء عليه نظام الحكم المحلي في مشروع الدستور، على صيغة تتضمن كافة عناصرها، والتي تتمثل في الآتي:

أقر مشروع الدستور في مادته 156 تمتع وحدات الحكم المحلي بالشخصية الاعتبارية. الأمر الذ يعتبر من أهم مميزات النظام اللامركزي.

أولا: تمتع وحدات الحكم المحلي بالشخصية الاعتبارية
أقر مشروع الدستور في مادته 156 تمتع وحدات الحكم المحلي بالشخصية الاعتبارية. الأمر الذ يعتبر من أهم مميزات النظام اللامركزي. ذلك أن هناك تلازما بين الإقرار بوجود مصالح ذاتية محلية تدار محليا ومنح الوحدات المحلية الشخصية الاعتبارية، لكي تتمكن من تسيير أمورها والتصرف في شؤونها بشكل مستقل عن الجهات المركزية، لأنه بذلك يكون لها ذمة مالية وتنظيم وظيفي واهلية قانونية في حدود اختصاصها(3).

ثانيا: انتخاب المجالس المحلية
نصت المادة 157 من مشروع الدستور على اختيار المجالس المحلية بالانتخاب الحر السري المباشر ، لتحقيق العنصر الثاني من عناصر اللامركزية الادارية، وهو ديمقراطية التكوين، الذي يحقق الارتباط العضوي بين الهيئات القائمة بتسيير الوحدات المحلية والوسط الاجتماعي التي تعمل بداخله ومن أجله. وذلك بتمكين السكان المحليين من اختيار القيادات المحلية بدل فرضها من الجهات المركزية. وهو ما يحقق الديمقراطية المحلية، ويوسع قاعدة المشاركة، التي تعد الأساس الأول للحكم الرشيد. ويتوافق مع تعريف الحكم المحلي بأنه هو الديمقراطية التي تمارس على المستوى المحلي أو من هيكل محلي(4). وقد تم إقرار ذلك في المشروع استجابة لعناصر اللامركزية الإدارية، لأن اللجوء إلي تعيين القيادات المحلية يجعل النظام أقرب لعدم التركيز الاداري من اللامركزية الحقيقية(5).

يعد مبدأ التفريع- كأساس لتوزيع الاختصاصات في نظام الحكم المحلي- من أهم المبادئ الحديثة المتبعة في اللامركزية. ويقوم هذا المبدأ على أن ما يستطيع القيام به الأدنى يترفع عنه الأعلى، وما يعجز عنه الأدنى يتولاه الأعلى. فالمحافظة تقوم بما لا يمكن أن تقوم به البلدية، والدولة تقوم بما لا يمكن للمحافظة القيام به في المسائل ذات الطابع المحلي.

ثالثا: التدبير الحر في الشؤون المحلية
اعتمد مشروع الدستور في مادته 156 مبدأ التدبير الحر كأساس لممارسة الوحدات المحلية لاختصاصاتها، وتدبير شؤونها، وانفاذ برامجها التنموية، وتطبيق قرارات مجالسها، بما يجعلها قاطرة للتنمية المكانية، وذلك في إطار سيادة الدولة ومبدأ الشرعية، أي وفق القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية(6). مع إقراره الرقابة اللاحقة، (م160)، وحصر تدخل السلطة التنفيذية في الشؤون المحلية في ما يضمن الاستمرارية في أداء الخدمات، وضمان جودتها، ومراعاتها للمعايير الوطنية(م161). وذلك كله في إطار نظام دستوري يكرس سيادة القانون. وفي مقابل حرية تصرف الوحدة المحلية في مواردها بما يخدم خططها، نص مشروع الدستور في عجز مادته رقم 159 على أن يكون ذلك وفق قواعد الحوكمة الرشيدة، والتي تتمثل في تطبيق القواعد القانونية، وترشيد النفقات، واعتماد الجودة والفاعلية، من خلال العمل على بلوغ الاهداف بأقل التكاليف، والشفافية في التصرف، والخضوع للمساءلة والمحاسبة. و يعد مبدأ التدبير الحر من دعائم اللامركزية الموسعة الذي نصت عليه عدة دساتير، منها الدستور الفرنسي المعدل سنة 2003م الذي نص في مادته 72 على أن تمكن المجتمعات المحلية من اتخاذ القرارات في كل المسائل التي تنشأ عن الصلاحيات المسندة لها بأفضل طريقة ممكنة. كما نص نفس الدستور في مادته 2/72 على وجوب أن تستفيد الجماعات المحلية من الموارد التي يمكن استخدامها بكل حرية وفق الشروط التي يحددها القانون. وهو الأمر الذي تضمنه الدستور المغربي في الفصل 136، والدستور التونسي في الفصل 132. حرية تدبير الشأن المحلي دون تدخل السلطة التنفيذية إلا في اطار ضوابط محددة تضمنه- ايضا- الدستور المصري في مادته رقم 181، التي نصت على أن قرارات المجلس المحلي في حدود اختصاصه نهائية، ولا يجوز تدخل السلطة التنفيذية فيها إلا لمنع تجاوز المجلس لهذه الحدود أو الاضرار بالمصلحة العامة أو بمصالح المجالس المحلية الأخرى. وهي أحكام تتفق من حيث المضمون مع ما نصت عليه المادة 139 من دستور جنوب افريقيا.

رابعا: اعتماد مبدأ التفريع في توزيع الاختصاصات
يعد مبدأ التفريع- كأساس لتوزيع الاختصاصات في نظام الحكم المحلي- من أهم المبادئ الحديثة المتبعة في اللامركزية. ويقوم هذا المبدأ على أن ما يستطيع القيام به الأدنى يترفع عنه الأعلى، وما يعجز عنه الأدنى يتولاه الأعلى. فالمحافظة تقوم بما لا يمكن أن تقوم به البلدية، والدولة تقوم بما لا يمكن للمحافظة القيام به في المسائل ذات الطابع المحلي. بمعنى أنه ما لا يمكن اسناده للوحدات المحلية تتولاه الدولة. وما يسند للوحدة المحلية، لا تقوم الدولة بالتدخل بشأنه، إلا لدعمها أو الحلول محلها عند عدم قدرتها على تنفيذه، أو عند القيام به دون الاستجابة لمعايير الجودة اللازمة، أو عند اخلالها بالتزاماتها المفروضة بموجب القانون. وذلك بقصد منع تعطل المرافق العامة والحؤول دون اضطراب خدماتها. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الفكرة الاساسية في نظام الحكم المحلي القائم على مثل هذه المبادئ هي النظر لتشييد الدولة من القاعدة للقمة.(7). وعلى هذا الأساس يكون التمييز بين الصلاحيات الذاتية والصلاحيات المنقولة والمشتركة. حيث تقوم الوحدة المحلية الأقرب للمواطنين بتقديم الخدمة، ولا يتم تجاوزها إلا في حال عدم تمكنها من تأمين الخدمة. ويحدد القانون الصلاحيات المنقولة من الدولة لفائدة الوحدة المحلية ويقترن ذلك بما يلزم لأداء تلك الصلاحية. كما يحدد القانون حالات اشتراك الدولة ووحدة محلية أو أكثر في أداء صلاحية معينة، مع ضبطه لمستوى تدخل كل منهما على أساس مبدأ التكامل، كما هو متصور في قطاع التعليم( مناهج، تعليم اساسي، تعليم ثانوي).(8).

وقد نص مشروع الدستور الليبي على هذا المبدأ في المادة 158(9) أسوة بعدة دساتير اختارت دسترة اللامركزية الادارية، منها- على سبيل المثال لا الحصر- الدستور التونسي في الفصل رقم 134. ويلاحظ أن هذه المبادئ التي تحكم اللامركزية هي التي أدت إلي وصفها باللامركزية الموسعة او المتقدمة.

في حالة اعتماد مشروع الدستور الليبي في الاستفتاء العام، وتحوله الي دستور دائم للبلاد، فإن المسألة- لكي تكتمل- تحتاج الي منظومة قانونية كاملة وإرادة سياسية ووعي شعبي لتكريس ديمقراطية محلية تكون اطارا للتنمية في المستقبل.

خامسا: تمويل وحدات الحكم
إضافة لما تضمنه مشروع الدستور في مادته 159 من النص على وجوب أن تكون لوحدات الحكم المحلي موارد مركزية، تتفق مع القدر اللازم لقيامها باختصاصاتها، ومواد ذاتية من رسوم وضرائب ذات طابع محلي وعوائد استثماراتها وما تتلقاه من هبات ووصايا، وما تحصل عليه من قروض وأي عوائد اخري يحددها القانون، ضبط نص مشروع الدستور مسألتين في غاية الأهمية في نظام الحكم المحلي من أجل ضمان فاعليته. حيث أوجب-أولا- أن يقترن كل اختصاص منقول لوحدات الحكم المحلي من السلطة المركزية بما يناسبه من موارد مالية، وأوجب-ثانيا- على الدولة ضمان التوازن المالي بين وحدات الحكم المحلي. وهو ما يجد مصدره المادي في عدة دساتير منها الدستور الفرنسي المعدل سنة 2003م في مادته72/2.

الخلاصة
من خلال النظر في بناء نظام الحكم المحلي في مشروع الدستور الليبي، يتبين بوضوح أنه تضمن عناصر اللامركزية الادارية تماشيا مع انظمتها الحديثة في بعض الدساتير المقارنة. وفي حالة اعتماد مشروع الدستور الليبي في الاستفتاء العام، وتحوله الي دستور دائم للبلاد، فإن المسألة- لكي تكتمل- تحتاج الي منظومة قانونية كاملة وإرادة سياسية ووعي شعبي لتكريس ديمقراطية محلية تكون اطارا للتنمية في المستقبل.

د. الهادي بوحمرة
عضو الهيئة التاسيسية

__________________________

(1)منذر خدام، مبادئ الحكم الرشيد، الحوار المتمدن، ع2059/10/5، محور دراسات وابحاث قانونية.
(2) راجع في مفهوم اللامركزية على سبيل المثال: د. صبيح مسكونى، مبادئ القانون الاداري الليبي،الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان،1978م، ص108. د.احمد صقر عاشور، الإدارة العامة، دار النهضة العربية،1979م، ص 311. خالد عبدالعزيز عريم، القانون الإداري الليبي،ج1، منشورات الجامعة الليبية، ص221.
(3) انظر د.محمد عبدالله الحراري، أصول القانون الإداري الليبي، ج1، تنظيم الادارات الشعبية ووظائفها، المركز القومي للبحوث والدراسات العلمية،2003،ص141.
(4) « la démocratie qualifiée par le niveau de l'organisation administrative auquel elle s'exerce » ;Marcou(G) : « la démocratie locale en France :aspects juridiques »,in O.C :la démocratie locale. représentation ,participation et espace public. P.U.F 1999,p21
(5) د. محمد عبد الله الحراري، نفس المرجع،ص142،143.
(6) الحسن الراشدي، مبدأ التدبير الحر وأفاق التدبير المالي للجماعات المحلية
http://www.marocdroit.com
د. محمد خربوش، التدبير الحر للجماعات الترابية، موقع المركز المغربي للتنمية الفكرية. .
.http://cmdi.ma
(7) محمد بن نقيه الختبوني، التكريس التنظيمي للمبادئ الدستورية المؤطرة للجهوية المتقدمة في ظل مشروع القانون المتعلق بالجهات. http://www.pjd.ma
(8) راجع على سبيل المثال: مؤلف حسناء بن سليمان، سهير الفوراتي، السلطة المحلية في تونس، AFTURD.ص21 وما بعدها.
(9) يجري نص المادة 158 على النحو الاتي: (تتمتع وحدات الحكم المحلي بصلاحيات ذاتية وصلاحيات منقولة من السلطة المركزية وصلاحيات مشتركة معها. على ان توزع الصلاحيات المشتركة والمنقولة استنادا إلي مبدأ التفريع. وتختص الوحدات المحلية بإصدار اللوائح والقرارات. وذلك كله وفق ما يحدده القانون).