Atwasat

نفوسة وجبلها ورستم وأحفاده

محمد عقيلة العمامي الإثنين 14 نوفمبر 2016, 11:28 صباحا
محمد عقيلة العمامي

مأخوذ أنا بالتاريخ، كدت أن أجعله تخصصي، تستهويني حكاياته وعبره، ولكن يبدو أن مناهج التاريخ التي درسناها في العهد الملكي ثم في الزمن الجماهيري تعمدت تغييبنا، بحسن أو سوء نية، عن تاريخ وجغرافية جبل نفوسة. فعلى الرغم مما أسهبوا في كتابته عن المدن الساحلية، أوجزوا معلوماتهم عن نفوسة وجبلها، الذي صار يسمى، فيما بعد، بالجبل الغربي؛ فالمعلومات عنه كانت شحيحة للغاية، خصوصًا بالنسبة لي.

منذ أن شرعت في ترجمة فصل حرب الثورة في الجبل الغربي من كتاب الثورة الليبية وتداعياتها، أحسست وكأن الكاتبين يتحدثان عن مكان ليس في بلادي، فأنا لا أعرف شيئاً عن تلك المنطقة ولا مُدنها، ولذلك استعنت بصديقي الكاتب عمر الكدي باعتبار أنه من غريان، التي تُعد عاصمة الجبل، ليعينني على أسماء المدن وعلاقاتها ببعضها البعض.

أنا لا أعرف عن الزنتان أكثر من أنها موطن أصدقائي عائلة ناصر الزنتاني، وكذلك موطن شيخ من شيوخ الناصرية صديقي عبدالوهاب الزنتاني وأبنائه سراج وفرج. ثم من بعد ثورة 17 فبراير السيد عبدالله ناكر. ومن بقية مدن جبل نفوسة لا أعرف سوى غراينة المرج وبنغازي، ثم عمر الكدي، ومن ككلة عمر الككلي. وخالد اصداع من جادو.

ولم أعرف شيئًا عن التجاذبات والاحتكاكات ما بين المشاشية وجيرانهم على سبيل المثال ولا تحالفاتهم في الماضي أو الحاضر ولا طبيعة العلاقات بين مدن الجبل. ولكن بعدما قرأت كتاب (النصارى) هذا، أصبحت أضع رجلاً فوق أخرى وأحدثك بدقة عن زاوية الطبال والقويعة ويفرن، بل وحتى عن القواليش!

وبمتابعتي للمعلومات عن أولئك الذين قدموا لثوار الجبل المعونات اللوجستية والسلاح والعتاد، لم أسمع أبدًا أن عُمان كان لها نشاط في ليبيا مثلما كان لقطر والإمارات ومصر والأردن.

ثم اكتشفت أن مساعدتهم كانت لنالوت تحديدًا ورجّحت ذلك لكون المرحوم يحيى معمر كان مستشارًا لسلطان عُمان والأرجح أنهم ساعدوا نالوت بسبب ذلك، ولكنني تذكرت أن عمان إباضية المذهب، بل إن هذا المذهب، استقوى واستقر في عُمان، وكان له دور بارز في التصدي لغزوات البُرتغاليّين على تلك الثغور، ثم ظهر في شمال أفريقيا، وتأسست دولة إباضية هي الدولة الرُستُمية، التي امتدت أراضيها من طرابلس الغرب شرقًا حتى تلسمان غربًا، وبذلك تكون قد ضمت ليبيا، تونس والجزائر، وكانت عاصمتها (تاهرت) ومؤسسها عبدالرحمن بن رستم، وهو فارسي الأصل.

تميزت دولته بالأمن والأمان والرخاء، وكنت قد كتبت عنه مقالة تقول إنه لما وصلت سيرته الحسنة إلى مُسلمي الشرق، جمعوا له أموالاً عظيمة، وبعثوا بها ثُقاة سألوهم أن يتأكدوا منه ويسلموه الأموال، وعندما وصل الوفد مشارف (تاهرت) دلّوهم على الإمام، فوجدوه على سطح داره، يناوله صبيه طينًا معجونًا يسد به شقوق سقفه. نزل لهم مرحبًا، وغسل يديه. وعندما حانت الصلاة أمهم، وطلب الأكل، فأحضر له صبيه الفطير والسمن والملح، فأكلوا ثم سألهم حاجتهم، فأخبروه عن هدفهم، إذ لم تعد ثمة حاجة للتأكد من نزاهته، فطلب من صبيه أن يجمع شيوخ القبائل لصلاة العصر، وبعد الصلاة أخبر الناس بالأمر، وسألهم الرأي، فأشاروا أن يقسم المال على ثلاثة: ثلث للخيل، وثلث للسلاح، وثلث يوزع على الفقراء والضعفاء. أحضر الوفد له المال، فقسمه أمامهم، بحسب ما اتفق الناس عليه!

وقد انتعشت البلاد كثيرًا، وعمها الرخاء في عهده، وصارت قبلة لمن ينشدون الأمن والأمان، والاستقرار، ويقال إن ديارها كثرت، وصار الناس يُشيرون إليها: هذه الدار للكوفي، وتلك للمصري، وهذا مسجد البغداديين، وذلك للبصريين.

ولقد تناول الكتاب الذي أشرت إليه والذي نقوم بترجمته وننشره على حلقات في هذه الصحيفة النهب الذي حدث في سقوط طرابلس والذي وصل حد العجب، ولقد صورت لنا وسائل الإعلام ذلك الذي جر طائرة إلى مزرعته، والثاني الذي نقل سلم ركابها، وأولئك الذين نقلوا خلّطات إسمنتية، ومعدات ثقيلة وعملاقه إلى أعلى الجبل وصارت لزمن نوادر انتشرت وشاهدها العالم كله. ولكن العالم كله أو على الأقل جزء منه، لم يسمع أن يفرن ونالوت سحبتا كتائبهما من طرابلس في نوفمبر 2011م واعتذرتا عما قام به بعض المتهورين، فأيقنت في نفسي أن «الأصل دساس» فهم على نحو ما أحفاد رستم باعتبار أن معظم أمازيغ ليبيا مسلمون إباضيو المذهب.