Atwasat

شهوة الاقتتال

محمد عقيلة العمامي الإثنين 17 أكتوبر 2016, 01:01 مساء
محمد عقيلة العمامي

لم يهتم الغرب تمامًا بسلوك الحيوان -(Ethology)ـ إلاّ في النصف الأول من القرن العشرين، هناك بالطبع إرهاصات قبل ذلك ولكن أن يتحول الحيوان إلى مادة في المعامل العلمية ويقبع تحت مجهر التجربة والاستنتاج لم يحدث إلاّ مع مطلع القرن الماضي.

صار هناك علماء متخصصون في دراسة سلوك الحيوانات، كأولئك الذين يمضون سنوات يسرحون وراء قرد ينامون بالقرب منه، ويصحون على صراخه ويصورونه ويسجلون سلوكه مثلما يفعل العاملون بمؤسسة (ناشيونال جيوغرافي) أو يمضون أشهرًا يراقبون في مصحة بيطرية، أو معمل سلوك الكلب بعيدًا عن أنثاه، أو حالة الأنثى النفسية بعيدة عن كلبها. لقد قطع الغرب شوطًا كبيرًا في هذا العمل، لعله بدافع ربط السلوك البيولوجي عند هذه الحيوانات بالسلوك الإنساني، فكلاهما كائن حي لا يختلف كثيرًا في سلوكه عندما تسيطر عليه شهوة الغذاء والتناسل والاستحواذ والتسلط، لا فرق سوى أن الإنسان ناطق وله يدان وعقل أوصله القمر، فيما ظلت الحيوانات سعيدة راضية بحيز يخصها وأنثى مطيعة وغذاء يكفيها.

لعل أول كتاب وقع في يدي كتاب الحيوان الذي ألفه الجاحظ في العصر العباسي الثاني، وهو كما تعلمون سبق الغرب في دراسة هذا العلم، وإن لم تكن دراسة ناضجة تمامًا. لست بصدد الحديث عن تاريخ هذا العلم ولكن الاهتمام الكبير الذي أولاه الغرب لهذا العلم بدؤوا يجنون ثماره، بل يطبقونه في الحياة العملية، وللأسف الشديد علينا نحن العرب في أحيان كثيرة. لعل مسألة الفوضى الخلاقة هي نتاج أبحاث حيوانية طبقت على الفئران. وما يحدث في ليبيا واليمن وسورية والعراق من حروب هي في الواقع جنون، ونحن نستغرب مما يحدث، إنها ببساطة فوضى، ولكن الغرب نتيجة تجاربه عن الحيوانات عرف أنها خلاقة، فغالبًا ما تستكين من بعد اقتتالها وتهدأ وتتجه نحو خلق مجتمع منتظم ونحن لم ننتظم بعد.

منذ فبراير 2011 نشأت بيني وبين صحفي هندي يعمل لجريدة واشنطن بوست علاقة مصلحة متبادلة أحكى له ما يحدث في ليبيا ويبعث لي عما يُقال عنا، منذ فترة بعث لي بفقرة قال إنها كُتبت عنا كنكتة تقول: «إن 20 مجنونًا هربوا في الصباح من مستشفى المجانين في ليبيا، وقبل حلول الظلام عاد بهم الحرس الثوري إلى المستشفى، وكانوا 22. قال لي إنكم تزدادون جنونًا» فانتبهت أننا فعلاً نزداد جنوحًا نحوه. ولكن دعونا نعود للحيوانات ونفهم كيف استفاد الغرب منها، في حين أننا لم نتجاوز مرحلة تربيتها، وتقطيعها على مفاصل في المناسبات، بعدما صار القديد ترفًا.

والمعارك تنشب بين الحيوانات من أجل الإناث أو الدفاع عن صغارها ولكن أكثر الأسباب هو الاستحواذ على حيز مكاني قد نسميه (وطن)

استفاد الغرب كثيرًا من دراسة سلوك الحيوان واستثمرها لخدمته، ولتطبيق نتائجها على الآخر، خصوصًا عندما يحدث احتكاك بينها بسبب الغذاء والماء والتناسل فتتقاتل. من بعد الحرب العالمية الأولى برز سؤال فرض نفسه ليجيب عنه الذين عانوا من ويلات الحرب، والذين انتبهوا أن الهناء والاستقرار لا يتحقق إلاّ بالعلم. فكان من هذه العلوم دراسة سلوك الحيوان غير الناطق.

كان السؤال: لماذا تتقاتل الحيوانات؟ لعله برز جراء مراقبة طالب علم أميركي اسمه (س. كاربنتر) بقرتين -وليس ثورين- تتناطحان بعنف إلى أن استكانتا وذهبت كل بقرة إلى حالها، فسأل هذا العالم صاحب البقرتين: لماذا لم يحاول الفصل بينهما فأجابه بهدوء: «اقتتال الأبقار يسفر عن انتظام في المرعى فتتأسس من تكون لها الغلبة والسيطرة على ما تشاء من حيز المرعى. وترضى المهزومة بما ترك لها. ونتيجة لذلك أحصل على دلو لبن من كلتا الاثنتين».

منذ تلك الحادثة قرر (كاربنتر) أن يدرس سلوك الحيوان وكرَّس حياته لدراسة (المادة) أو الحالة التي تسبب الاقتتال. سنة 1938 أثبت (كاربنتر) أن للعدوان الحيواني نتائجه البناءة، بعدما نقل مجموعة من القرود الصغيرة من الهند إلى (سانتياجو) بالقرب من بورتوريكو، وهناك أطلق سراحها وشرع في دراسة سلوكها. بدأت القرود في اكتشاف بيئتها الجديدة وأخذت الذكور تتقاتل حتى برز زعيم وانسحب المهزومون تدريجيًا وقبلوا أن يكونوا تحت زعامته.

عندئذ استقرت المجموعة، وأخذت الإناث تهتم بصغارها، ونمت مشاعر الود بينها واهتم القرد الشاب بالقرد العجوز، وقل الصراخ وكثر اللعب والبهجة. وانفتحت أبواب هذا العلم وكثر دارسوه، ليخبرونا أن أغاريد الطيور في الربيع هي تحذير لبعضها البعض لتبقى بعيدة من مساحتها وتتفادى الاقتتال. ثم يكتشف أستاذ الأبحاث النفسية الأميركي الشهير (جول بول سكوت) أن السبب الذي يشعل الاقتتال هو الألم، إنه العنصر الأساسي في نشوب العراك بين الفئران. كان يكفي أن يعضَ فأر برفق في ذيله حتى يستدير ويؤذي أقرب فأر منه.

والمعارك تنشب بين الحيوانات من أجل الإناث أو الدفاع عن صغارها، ولكن أكثر الأسباب هو الاستحواذ على حيز مكاني قد نسميه (وطن) واقتراب الآخرين منه يجعل صاحب المكان عدوانيًا شرسًا. ومن تجاربه أيضًا، حبس قط أليف جدًا في قفص لفترة ليست بقصيرة، فانقلب عدوانيًا جدًا، اكتشف أيضًا أن الكبت الطويل، الخوف، والقلق، وطول حبس الفئران تتسبب في إصابتها بأمراض القلب والربو وقرحة المعدة، ونفوق الكثير منها، وقلة إنتاج الإناث للحليب. وهي لا تتوقف قط عن بحثها لمخرج حبسها، وبمجرد أن تصير حرة يتوقف عراكها، وتستكين.

أتذكرون فرحتكم من بعد سقوط نظام القذافي. كنتم تتطلعون إلى الحرية وفرحتم بها في البداية، ولكن ما إن ظهر من يريد قمعكم والتسلط عليكم وفرض قناعاته، حتى ثرتم مجددًا عليه، وسقط شهداؤكم وترملت نساؤكم وكثرت عوانسكم وما زلتم تتقاتلون لن يتوقف حالكم إلاّ بعد أن يبرز خياركم ويجعلوا من مدنكم الملاذ الآمن الذي تتحركون فيه بحرية وتتوافر لكم الحياة الهانئة الآمنة. عندها فقط سوف يقل عدد المجانين. ثمة نواة لذلك.. نعم.. ثمة أمل.