Atwasat

يساري في الوسط

محمد عقيلة العمامي الإثنين 19 سبتمبر 2016, 09:13 صباحا
محمد عقيلة العمامي

قد نسميها مرسما أو معملا، ولكن الأكثر دقة أن نسميها «مطبخ الجريدة». صالة التجهيز هي على نحو ما مطبخ فسيح يتحرك فيه (شيف) التحرير ما بين أعوانه، هذا الذي ينظف المقال من شوائبه، أو يصحح «مقاديره»، وذاك يجزّيء التحقيق الطويل، ويقطعه بحسب المساحة المتاحة، وغير بعيد من يتولى تزيين (الطبق) بالصور المطلوبة لتُقدم الجريدة كطبق زاهٍ للقارئ.

لعلي اقتربت من أربعين عاماً (أُمَوِّن) مطبخ الصحافة بما يحتاجه بمواد تتناسب و«الطبخة» التي تّعدها الجرائد، ولكنني لم أكن عاملاً في أي منها. غالبا ما أكون مبتهجا، ساهرا وسط حلقة من الأصدقاء، ولكنه لم يخطر على بالي أبدا أن هناك منكبًا على نصي يتصبب عرقا، محاولا وضع النقاط فوق أو أسفل الحروف، ذلك لأنني أنطلق سريعا نحو الكلمة الثانية من دون أن أضع هذه النقاط البليدة في مكانها.

هذا المطبخ جديد عليّ، لم أسهر فيه من قبل ولم أسمع تعليقات الطباخين المرحة، ولا تلك التي تضحكك رغم مرارة التفوه بها بسبب أن «ممولا» ذهب إلى الصين ليقدم لنا فولا مدمسا. إنها معاناة ولكنها بمختلف النكهات.
صار الآن لي وظيفة، وجدت أنها فرصة ينبغي أن أستفيد منها. من بين الطباخين موسوعة فنية ولغوية وحس متكامل بالمطبخ وأدواته، اسمه الأستاذ سامي البلعوطي، فهو ما يتعارف عليه بالمنسق، أو «بالديسك مان» التي تعني مدير منضدة التحرير، أو بمعني آخر مدير المطبخ.

إن ما أقوله هو بمثابة دعوة للمبدعين من رجال الأعمال لينتبهوا إلى أن عظماء كثيرين من العسر

فحرصت أن أكون قريبا منه لأنني من أولئك المقتنعين بأن التعلم من المهد إلى اللحد وأنا في الواقع قبل كلمة اللحد بقليل. كان كلما اقتربت منه يفسح لي مجالا بجانبه الأيمن، وذات مرة جلست بالصدفة بجانبه الأيسر، فأحسست بحرصه أن يفسح مساحة أكبر بيني وبينه.. ابتسم وقال: «أنا أعسر والجلوس جنبي من الجهة اليسرى مقلق لك ولي» ثم استطرد: «أنا يساري بدماغ يميني» وابتسمت معتقدا أنه يقصد الأيديولوجية اليسارية، فقلت له مداعبا: «واحنا كمان».

البارحة وبالصدفة، عرفت ما كان الأستاذ سامي يقصده؛ فالعلم يقول: إن ما يحرك الجهة اليسرى هو فص الدماغ الأيمن والعكس صحيح. وبمواصلة البحث، قرأت مقالا شائقا لكاتب اسمه (إريك هودجنر) سنة 1959 اكتشفت منه أن ثمة عالما يعيش بيننا ولا ننتبه في الحقيقة إلى الكثير من منغصات تزعجه. هذا (العالم) يقدر بحوالي 200 مليون أعسر، أي أنهم أكثر من سكان أميركا كلها، ويقول العلم الحديث إنه لا يجب إرغام الطفل على تصحيح سلوكه الفطري في استعمال اليد اليسرى، لأن ذلك يتسبب في أمراض نفسية، لعل أقلها التهتهة في النطق.

اليساريون أقلية مضطهدة إلى حد ما. فالأشول أو الأعسر حالة مزعجة للرجل وعذاب للمرأة بسبب أن كل ما نستخدمه في حياتنا مصمم لليمينيين فقط، بل ثمة عداء تجاه الشول: في اللغة اللاتينية (Sinister) معناها أعسر وأيضًا شرير. وفي الفرنسية (Gauche) تعني أيضًا أحمق.

ونحن اليمينيين لا ننتبه أن الإنسان الأعسر يُرهق نفسه كل يوم في ممارسات نرى أنها بسيطة وعادية، فأقراص التلفون وبرايات الأقلام وآلات الساكسفون ومقابض الأبواب وقيادة السيارات، كلها مصممة لأهل اليمين فقط، فمثلا المرء إما أن يعزف الكمان بيده اليمني أو لا يعزفه على الإطلاق! غير أن عذاب السيدات مضاعف سبب أن كل أدوات المطبخ والحياكة مصممة لليمينيات فقط.

ولقد فكر رجل أعمال بريطاني في أن يتخصص بتسويق منتجات للعسر، لعل المعدات التي يحتاجها طبيب الأسنان أبرزها، فكان يتعاقد مع المصنعين لكافة المبتكرات لتكون مناسبة ليستعملها العسر، فبلغت دورته المالية السنوية حوالي 20 مليون جنيه استرليني. إن ما أقوله هو بمثابة دعوة للمبدعين من رجال الأعمال لينتبهوا إلى أن عظماء كثيرين من العسر، لعل أشهرهم الصحابي الجليل عمر بن الخطاب، ومن أبرز الموهوبين في الغرب ( ليوناردو دافنشي)، وفي الشرق الأستاد سامي البلعوطي، شريطة ألاّ تجلس بجواره على مائدة الأكل من جهته اليسرى.