Atwasat

كيان الفوضى الليبية

نورالدين خليفة النمر الأحد 18 سبتمبر 2016, 09:54 صباحا
نورالدين خليفة النمر

التنظيمات المجتمعية من حقبة ماقبل الدولة المنافرة لها، أو الموازية لدولة مغيّبة ابتعاثها من جديد حيّر الكثير من المتابعين الخارجيين، والمهتميّن الليبيين بمصير الثورة وقدرها الأعمى الذي يبدو أنه يقودها عميقاً، ومن جديد في النفق المعتم للشعبويات الفوضوية.

فانعطاف المجتمع نحو المجالس الاجتماعية، وليس المدنية، والمجالس العليا للقبائل، واللجوء إلى وسائل غير مجدية بديلة كرفع الغطاء الاجتماعي "القبلي"! عن المخالفين للقانون من الجانحين والمجرمين؛ بل ركون الرئاسة المصطنعة للبرلمان في حل المشاكل الاجتماعية والسياسية إلى المشايخ والأعيان. وغيرها من الظواهر التي قاربت الانعطافة المتطرّفة لرأس النظام الدكتاتوري السابق في ليبيا، ومصطنعاتها السياسية الضدّ-مؤسسية ، بإعادة الليبيين إلى القواعد المجتمعية الفطرية.

في نظريته التي صاغها فيما بعد في كتابه الأخضر، واعتنقها مناصروه من الليبيين، قدّم دكتاتور ليبيا السابق تفسيره الذي يرى أن الروابط الحقيقية بين الناس مرّدها إلى ثلاثة أسس قاعدية: العائلة والقبيلة والأمة، وأن كل ماعداها اصطناع زائل وزيف منقضٍ. تصوّره هذا أضفى على الحياة السياسية قيم البدواة والصحراء. وعبّر- حسب محي الدين صبحي- عن ارتياح جمهور واسع من الناس. ومن هنا يمكن تفهّم تمجيد القبيلة في الخطاب السياسي الذي أضفيت عليه صفة الجماهيري. إذا ما أُخد في الاعتبار تكوين المجتمع الليبي، وكون القبيلة فيه أمراً واقعاً.

وبدون إنكار مالهذا النموذج من بعض الإيجابيات، رغم محدودية ماكان يمكن انتظاره منه، إلا أنه حظي من قبل مفكرين كـ "سمير آمين" بتمعّنٍ متعاطف مع جهود النظام الليبي الموجّهة نحو إشاعة الديمقراطية والمشاركة الشعبية. بينما أرجع غالي شكري المُدّعيات الشعارية كالثورة الشعبية والثقافية والتطرّفات التي تلتها إلى ما وصفه بتعميق الثورة وتصعيدها إلى فشل ماسمّي وقت ذاك بالنظام الثوري الليبي، في اقتسام ومشاركة صياغة النموذج العربي الوحدوي حيث اقترن إعلان الحرب على إسرائيل أكتوبر1973، بإقصاء النظام الليبي عن ساحة المواجهة مما همّش ليبيا قومياً. وهو ما يفسّر ابتعاث اللجان الشعبية كمحاولة للتعويض الداخلي عن فشل سياسي خارجي.

بناءاً على هذه العوامل يمكن اعتبار ليبيا ذلك المجال الطرفي المسكون بقبائل خارج مجال سيطرة الدولة.

الوطنيون الليبيون، الذين عايشوا الانعطافة الشعبوية منذ بدايتها، بل كان بعضهم من ضحاياها يفسّرونها كونها خطوة استباقية لاستبدال المؤسسة العسكرية ورئاستها، الممثلة في مجلس قيادة الثورة، بمكونات شعبية غير مؤسسية، تقف صادّاً أمام يقظة التوجّهات الوطنية لضبّاط الجيش الصغار، الذين قاموا عام 1969 بالانقلاب على الملكية في ليبيا، وشعورهم المتذمر بأن زعيم الانقلاب قد حاد بما وصفوه بثورتهم عن مسارها الوطني ويستندون في ذلك إلى تاريخ المحاولة العسكرية المبكرّة عام 1970 التي تزعّمها وزيرا الدفاع والداخلية، والمحاولة العسكرية الثانية أغسطس 1975، التي تزعمّها أعضاء أصلاء في مجلس القيادة وعدد كبير من تنظيم الضباط الأحرار الذين ترجع أصول أغلبهم إلى مدن وحواضر كطرابلس ومصراتة وبنغازي ودرنة. وهي المحاولة التي افتعل زعيم الانقلاب استباقها بالثورة الشعبية ولجانها. وكان ذلك في15 أبريل 1973 أي قبل حرب 7 أكتوبر 1973 التي كان إعلانها مفاجئاً ومُحبطا للدكتاتور ذاته.

بينما وضع علماء الأنتربولوجيا، والاجتماع "السوسيولوجيا" في اعتبارهم نظرة الفاتحين العرب لليبيا كونها منطقة عبور لبلدان الشمال الأفريقي الأخرى، وأن معطياتها البشرية لاتسمح بقيام حواضر ومدن قارّة، مرجعين السبب للظروف المناخية الصحراوية والعوامل الاجتماعية الناتجة عنها والمتمثلة في غلبة طابع البداوة على حياة السكان.

نتوقّف عند هذه النظرية الأنثربولوجية السوسيولوجية لأنها ترجع المسألة، ليس فقط لتوجهات الفرد أو المجموعة السياسية، بل للطبيعة المجتمعية العامة، وهي الرؤية المتأسسة على أطروحة العلاّمة عبد الرحمن بن خلدون (1332 ــ 1406) في كتابه المقدّمة، والتي حدّد فيها بشكل حيوي ومكثّف نمط العلاقة بين الدولة والمجتمع، أي القبيلة، في المجتمعات المغربية القرو-وسطية. وهو مايمكننا، تسميته دون الإفضاء بمرّكب منتج بـ "الجدلية الاجتماعية". هذا التحديد الخلدوني شكّل مساهمته النظرية اللافتة في نشوء الدولة، وتفسيره للمتغيّرات الاستراتيجية أو الشروط الثقافية، والبنيوية المتمثلة في أبعادها الثلاثة الرئيسية : ظهور العصبية الغالبة، وبروز هرم الزعامة من قلب العصبة، وانصياغ الدعوة الدينية في إضفاءالمشروعية. توّفر الشروط هذه يفرز المركز السياسي في المجتمع، ويعطيه الشكل الموّحد بدل الشذري أو التشذّري fragmented، والهوّياتي بدل الانقسامي Segmented.

بالإضافة إلى ذلك يعطي ابن خلدون ملاحظات هامة حول بنية الدولة في المغرب القرو-وسطي، فيلاحظ أن بنية الدولة نفسها تحكم عليها بعدم الاستقرار المتواصل؛ فديناميكية النسق تتضمّن تحوّلاً متواصلاً للنخب، ليس بالشكل الذي وصفه باريتو Pareto ، ولا بالصورة التي بيّنها ماركس Marx، أيّ على قاعدة طبقات اجتماعية، ولكن على قاعدة القبائل، في صورة الدورة التاريخية المنتظمة التي توصل القبيلة إلى السلطة لكي تكون هي بدورها ضحية دورة قادمة، بعد بضعة أجيال من الفارق الزمني. والتاريخ الوسيط للمغرب كله حقب دولوية متوالية في شكل رتيب، ولم تتوصّل أية دولة إلى إدخال شيء من التعديل على هذه الحركة التاريخية.

المساهمة النظرية الخلدونية تساعدنا على تشريح بنية المجتمع التقليدي المغربي لنتبيّن المفارقة التي ينطوي عليها كيانه. التوحّد والاندماج على الصعيد النظري والتشريعي، والتشتت والتذبذب بين القوة والضعف في مجال نفوذ ومركزية الحكم. فالمجتمع المغربي الوسيط- شأنه شأن العديد من مجتمعات ماقبل الرأسمالية- ينقسم إلى مجالات نفوذ عديدة ومختلفة، حيث تختلف درجة المراقبة بحسب قرب الجهة أو بعدها عن المركز.

ولذلك فإن رسماً تخطيطياً لمجالات النفوذ في الدولة المغربية الوسيطة يظهرها على شكل دوائر ثلاث متداخلة: تمثل الدائرة الأولى مجال النفوذ المركزي في المدن وتنسحب على أبعاد ثلاثة: بعد عسكري، وبعد تجاري وبعد ديني. وفي هذا المجال الحضري قامت دول وإمارات متعاقبة، كانت تلجأ لضمان أمنها إلى استخدام قبائل معفاة من الضرائب لإخضاع الأطراف. حول هذه الدائرة من المدن ومن القبائل المقرّبة من السلطة، نجد منطقة وسيطة تسكنها قبائل مخضّعة، يدير شئونها أعيان محليون أو أعوان ينصّبهم الحاكم المركزي.

وقد كانت هذه القبائل مجال استغلال متواصل وضرائب ثقيلة. أما الدائرة الثالثة، فهي مجال طرفي غير واضح الحدود تسكنه قبائل دائمة التمرّد، وهذه المجموعات الطرفية لاتشكل فقط تهديداً للحكم المركزي في أوقات تمرّدها، بل إنها تصل إلى حدّ الاستيلاء على الدولة، وبناء دولة أخرى على أنقاضها.

بناءاً على هذه العوامل يمكن اعتبار ليبيا ذلك المجال الطرفي المسكون بقبائل خارج مجال سيطرة الدولة. ولكن هذا المجال القبلي غير مؤهل لبناء دولة. ساعدت الإرادة الدولية الليبيين عام 2011 في إسقاط الدولة المفصّلة على مزاج الدكتاتور ورغائبه البدائية، ولم تساعدهم كما حدث عام 1951 على بناء قواعد لدولة تلائم ظروفهم، ومعطياتهم فرجعوا إلى قواعد اللعبة القديمة: العيش في الفوضى. بل إكساب الفوضى شكل الشرعية- كما كتب عبدالله القويري في كلماته إلى وطنه: "الفوضى التي تزيل كل معنى، وتجعل كل فرد في مهب ريح العواطف التي لاترتكز على شيء إلاّ ردود الأفعال" وهو مانعيشه اليوم.