Atwasat

دموع التماسيح: من إليان إلى إيلان

سالم العوكلي الأحد 28 أغسطس 2016, 09:37 صباحا
سالم العوكلي

يقتل القتيل ويمشي في جنازته. لم يتجسد هذا المثل، الذي كنت أعتقد أنه مبالغ فيه، بصورة مباشرة وواضحة، كما تجسد في البرنامج الوثائقي (اغتيال حلب) الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية. وذكرني ما يقوله الأطفال في هذا الوثائقي- والواضح أنه تم تحفيظهم بقسوة ليقولوا هذا الكلام- ذكرني بالخمير الحمر في كمبوديا الذين كانوا يقتلون الآباء ويجندون الأطفال الأيتام في ثورتهم، والذين قتلوا مليونين من فقراء الشعب الكمبودي من أجل حرية وسعادة الشعب.

حين ضُربت العراق ودُمرت بعد اجتياحها للكويت عبّر الشاعر، محمد الماغوط، عن صدمته قائلا ما مفاده: لا أتخيل كيف تُدمَر دولة من عمر التاريخ من أجل دولة من عمر مجلة الموعد. كان اجتياح الكويت خطأ كبيرا لكن ثمنه لم يكن محض عقاب لنظام متهور، بل تصفية حساب مع تاريخ عريق ومركز حضاري يحرج بأصالته تلك الإقطاعيات التي صنعتها أيدي الإمبراطورية البريطانية الآفلة فوق الصحراء مثلما ترتب رقعة شطرنج ستلعب بها مرارا في المنطقة.

وبمثل حرقة الماغوط يمكننا أن نتساءل: كيف تتجرأ دويلة بعمر مجلة الكواكب على أن تسهم عبر أموالها وعملائها بالفتك بتاريخ شعب الأبجدية الأولى فوق الكوكب، وباستقرار أمة فسيفساء أرست على مدى التاريخ ثقافة التعايش بين أعراقها وطوائفها ودمجت تناقضاتها في فكرة المواطنة.

أذكر بداية ما يسمى الربيع العربي، أن قدمت الخارجية السورية احتجاجاً على تحركات السفير الأميركي المشبوهة بين المدن السورية، درعا وحمص وحلب، وحدث أن انطلقت ثورة سلمية في أيامها الأولى، لكنها سرعان ما اتخذت التمرد الليبي نموذجا لها ورفعت أعلام الاستقلال الليبي بجانب علمها الجديد، لينطلق الرصاص فيما بعد كلغة وحيدة لهذه الثورة، وكانت فرصة بعض دول المنطقة المنزعجة من النظام الأسدي وعلاقاته بإيران وحزب الله، لضخ المجاهدين المدعومين بفتاوى من جميع جيوب الأرض إلى سوريا عبر الأراضي التركية، وبدعم لوجستي من حكومة حزب العدالة والتنمية.

ويبقى السؤال: من اغتال حلب؟ ولا أحد سيعرف حين تصبح حلب مسرحا لصراع كوني

وأذكر أن بعض الليبيين الذين لحقوا بأبنائهم المتطوعين للجهاد في سوريا قد وجدوهم في استراحات مدن على الحدود السورية من أجل تجميعهم ونقلهم إلى سوريا، وكفت الثورة السورية سريعا عن أن تكون ثورة مطالب سياسية مستحقة، واتخذت من قبل قوى دولية وإقليمية ذريعة وفرصة لضرب هذا النظام الذي استعصى على محاولات سابقة، وخرج من مخططات حُبكت له مرارا. خرجت من ملف وجود مؤسس حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، في سوريا التي لجأ إلى أراضيها، وخرج منها عام 1998 إلى روسيا بعد أن أججت تركيا ملفه وحشدت قواتها على الحدود السورية. ثم حُرِّك ملف اغتيال رئيس الوزراء اللبناني العام 2005 ، رفيق الحريري، ضد سوريا التي اتهمت بالوقوف خلف مقتله، لكنها استطاعت الخروج من هذه الأزمة بسلام. وكانت فرصة ظاهرة ما سمي بالربيع العربي للانقضاض عبر هذه الظاهرة الجديدة على سوريا، وهذه المرة نجحت القوى نفسها في اختراق الحاجز السياسي والأمني السوري، وتعامل النظام السوري مع هذا الملف برعونة جعلته لقمة سائغة لهذه القوى.

لقد ظهر السوريون إلى الشارع بمطالب شرعية ضد نظام قمعي، لكن كما حدث في ليبيا واليمن لم يكن الداخل مهيأ لمثل هذا التغيير ما أتاح مواطيء أقدام للخارج، وفتحت هذه الانتفاضات الحدود على مصارعها لتدخل أجندات دولية وإقليمية، وتحولت هذه الانتفاضات الشعبية العفوية إلى مؤامرات بيد المتربصين بهذه الظاهرة.

وكانت فرصة بعض دول الخليج التي تملك ثروات هائلة لتصفية حساباتها مع هذه الأنظمة الراديكالية من جانب، ولتشويه هذه الظاهرة العربية الجديدة المطالبة بإصلاحات ديمقراطية جذرية من جانب آخر، حتى لا تنتقل العدوى إلى تلك الدول. وحين يتم الحديث في قنواتها عن جرائم الأسد وعرض تقارير مصورة عن مأساة سوريا، فإن الأمر يبدو مثل سير القاتل في جنازة ضحيته.

وتظل دموع التماسيح تنهمر وهي تلتهم فرائسها، وتظل لعبة الميديا الأثيرة ترويج صور الأطفال الضحايا وتحويلها إلى أوراق لعب سياسية، من مأساة الطفل الكوبي، إليان جونزاليس، العام 2000 الذي نجا من غرق مركب متجه إلى سواحل أمريكا لتبدأ مسرحية حضانته ورقة تلعب بها أطراف الحرب الباردة، إلى إيلان الكردي، الطفل السوري المهاجر، الذي لم ينجُ من غرق مركبه المتجه إلى سواحل أوروبا، وقبلها صورة الطفل الفلسطيني، محمد الدرة، وصولا إلى صورة الطفل، عمران، المخضب وجهه البريء بالدم في سيارة الإسعاف، وكأن اختزال المآسي الكبرى في صورةٍ أيقونة طريقة للتغطية على المجازر الجماعية، وللتغطية على الجاني الحقيقي، ولتحويل الكارثة إلى ما يشبه أيقونة المسيح المصلوب التي بها يتطهر الجميع من آثامهم.

تختار الميديا، كل مرة، طفل الدعاية، بينما يموت ملايين الأطفال البعيدين عن طقس الصورة الواحدة مثلما يموت الجراد المهاجر في البحر، وتظهر الأفلام الوثائقية لتستنطق الأطفال وسط الدمار والحرائق، يُسمّعون ما أملاه عليهم المخرج من أجل كسب جولة سياسية، والمخرج يعرف أن أموال دولته ساهمت في المأساة، ومذيعة السي إن إن؛ التي بكت وهي تروي حكاية عمران، تعرف أن مصادر القرار في المبنى المطل على محطتها أسهمت في تغطية وجه عمران بالدم والرماد.

اللعبة قديمة جديدة، والميديا تستفيد من قرن من الترويج السينمائي لجرائم الساسة وتبريرها، والضحايا هم الضحايا، سواء ظهروا في صورة أيقونة، أو اختفوا تحت الركام، أو في قاع البحر دون أن يعلم بهم أحد.

ويبقى السؤال: من اغتال حلب؟ ولا أحد سيعرف، حين تصبح حلب مسرحا لصراع كوني، يشارك فيه نظام سوري ورط نفسه في المأساة حين اعتقد أن القبضة الحديدية كافية لاستمراره، وقوى إقليمية ثرية لا تمت للديمقراطية بصلة وجدت الفرصة لتصفية الحساب مع نظام مقلق لا يستجيب لمزاجها، وجماعات إرهابية تتسلل وسط الفوضى لتتاجر بأساطيرها المدعومة من قوى خفية وغير خفية، ومعركة انتخابية في الولايات المتحدة تفتح صناديقها في حلب، ومحور روسي إيراني يعيد للحرب الباردة جمرها البعيد عن مهندسيها.
ويتوزع دم عمران، ومليون عمران، بين قبائل الكون.